حقيقة.!

يقول عباس العقاد: اقرأ كتاباً جيداً ثلاث مرات أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جيدة.

جودت بيك وأولاده.pdf

صباحاً تمتم جودت بيك يقول: أوف.. أوف.. الفراش كله.. الشراشف أيضاً... غرفة الصف بكاملها.. ظهري وكم المنامة، كل هذا مبلل تماماً! نعم كل شيء غارق في البلل وها أنا ذا أستيقظ من النوم! كان كل شيء غارقاً في بحر من البلل كما رآه في حلمه قبل قليل. استدار في فراشه وهو يغمغم، تذكّر الحلم فتملكه الخوف. كان جودت بيك في حلمه جالساً أمام المعلم في مدرسة كولا للبنين. رفع رأسه عن الوسادة المبللة واستقام. تابع تمتمته وهو يقول: نعم، كنا جالسين أمام المعلم. المدرسة كلها غارقة في الماء حتى الركب. لماذا؟ ذلك لأن الماء كان يتسلل من السقف. فهذا الماء المالح المتسلل من ثقوب السقف يتدفق فوق جبهتي وصدري ثم ينساب ليغطي أرض الغرفة. وفي هذا الوقت كان المعلم يشير إليّ بعصاه ليلفت أنظار الجميع وهو يقول: هذا كله بسبب جودت. حين تجسدت أمامه تلك الصورة الحية لقيام المعلم بالإشارة إليه بالعصا ولنظر جميع زملائه إليه نظرات لائمة محتقرة ولاسيما لنظرات أخيه الأكبر منه بسنتين الملأى بقدر كبير من الاحتقار والاستصغار، حين انتصبت تلك الصورة حية في ذاكرته انتابته موجة من الارتعاش. غير أن المعلم القاسي الذي كان يعاقب الجميع بالفَلَقة بدون أن يرف له جفن ويدوِّخ أياً من الصبية، مهما كان قوياً، بصفعة واحدة أبى لسبب أو لآخر أن يُقْدم على معاقبته هو بسبب الماء المتسرب من السقف. فكر جودت بيك بينه وبين نفسه: كنت مختلفاً عن الآخرين، كنت وحيداً، كان الجميع يحتقرني ويسخر مني. لم يكن أحد ليجرؤ على أن يمسني بسوء على الرغم من أن الماء المتسلل من السقف كان يملأ الغرفة! وهكذا انقلب الحلم المخيف، الكابوس المرعب، إلى ذكرى مفعمة بالنشوة في لحظة واحدة. كنت مختلفاً عن غيري، كنت وحيداً، ولكن أحداً لم يكن يستطيع أن يقتص مني! تذكر كيف صعد إلى سطح المدرسة وحطم عدداً من ألواح القرميد، نهض واقفاً. نعم، حطّمت ألواح القرميد. كم كان عمري آنذاك؟ سبع سنوات. أنا الآن في السابعة والثلاثين من العمر، خاطبٌ، سأتزوج قريباً! غَمَرَتْه النشوة إذ تذكر الخطيبة نعم، سأتزوج قريباً، وبعد...، تباً لي! ما زلت ألهو، أكاد أتأخر! هرع أولاً نحو الشباك لمعرفة الوقت، نظر إلى الخارج من بين الستائر. أضواء الصباح العجيبة تلفها أوشحة من الغمام الشفاف. أدرك أن الشمس مشرقة. ثار غضبه من هذه العادة الشرقية القديمة فدار بعنف ونظر إلى ساعته وهو يقول: إنه نصفي التركي الشرقي! ثم هرع إلى دورة المياه قائلاً: يجب ألا أتأخر! زادت نشوته بعد الاغتسال والإحساس بالنظافة. استعاد الحلم في ذاكرته وهو يحلق ذقنه ثم تذكر أنه سيذهب إلى قصر شكري باشا فارتدى سترته وبنطاله النظيفين والقميص ذا الياقة المنشّاة كورق المقوى مع ربطة العنق التي وجدها لطيفة للغاية. وضع الطربوش الذي قَوْلَبه قبل مراسيم الخطبة فوق رأسه. راح يستعرض صورته في المرآة الصغيرة - الموضوعة على الطاولة حتى استنتج أن مظهره مناسب تماماً، غير أنه مع ذلك شعر في أعماقه بوجود موجة مستيقظة من الحزن. لا شك أن هناك أموراً تثير السخرية في النشوة التي غمرته لأنه ذاهب إلى قصر خطيبته بهذا المظهر الأنيق جداً. بتلك الموجة الخفيفة وغير الضارة من الحزن أزاح ستائر النافذة: كتل الغمام حجبت مآذن جامع الشيخ زادة ولكنها أخفقت في إخفاء القبة. بدت العريشة في الحديقة الجانبية أكثر خضرة من أي وقت مضى. فكر جودت بيك بينه وبين نفسه: سيكون يوماً حاراً هناك تحت العريشة قطة، جلست بارتخاء وراحت تلحس جسدها بكسل. تذكر جودت بيك شيئاً ومد رأسه عبر الشباك فرأى ذلك الذي كان يشغل باله: إنها العربة، هي واقفة أمام باب الدار والجوادان يلوحان بذيليهما فيما وقف السائق عند الباب وهو يدخن منتظراً قدوم جودت بيك. وضع جودت بيك علبة السجائر التي تذكرها مع القداحة ومحفظة النقود والساعة التي عاينها مرة أخرى في جيوبه وخرج من الغرفة. نزل على أدراج السلم بجلبته المعهودة، وكعادتها هرعت زليخة خانم التي سمعت الجلبة إلى بهو السلم لاستقباله وهي تبتسم ولتقول له إن طعام الفطور جاهز.

جودت بيك وأولاده.pdf

تفاصيل كتاب جودت بيك وأولاده.pdf

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 1
مرات الارسال: 26

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: