الشـعر والحساسـية.pdf
تتلخص الغاية الأولى لهذه العجالة التمهيدية في السعي نحو إرساء القواعد التي من شأنها أن تكون حوامل لمعيار القيمة، وهو الأسّ الأكبر للنقد الأدبي بأسره، وفي تقديري أن الروح يحتضن سؤال القيمة لكي لا يتساوى النفيس والخسيس، أو الرفيع والوضيع، فليس الإتضاع سوى هذا الاستواء حصراً. وربما جاز الزعم بأن أبرز معيار بين معايير القيمة كلها هو هذا: إن أدباً لا يتفاعل مع الحياة بصدق وعمق لا يسعه البتة أن يكون غير تهويم أو لغو سوف تلغيه الأيام. ولما كان شكسبير قد التزم بهذا المعيار على خير وجه ممكن، فقد جاء نتاجه أكمل نسق أدبي ظهر على الأرض طوال التاريخ. ولعل في الميسور القول بأن أولى الحقائق النفيسة وأهمها وأولاها بالعناية هي القيمة التي تتحدد أولاً بمثنوية النبالة والنذالة. أما النبالة فهي الاسم الآخر للأصالة، وأما النذالة فهي الاسم الآخر للعطالة، التي هي شح النفس، أو خلوها من السمات الايجابية الفاعلة في خدمة الخير. فالإنسان هو القيمة وحامل القيمة في آن معاً، وكل ما لا يبث القيمة الجلّى، وكل ما لا ينتسب إلى الشعور الايجابي، وكذلك إلى النبالة والأصالة، لا يعوَّل عليه كثيراً، وربما لا يعوَّل عليه بتاتاً. فما تشعر به أو تتحسسه بهمّ واهتمام، هو أبرز شيء في وجودك بأسره، وذلك لأن الإنسان شعور بالدرجة الأولى، وكيفما كان شعورك كنت أنت. وإني لأخوّل نفسي حق الذهاب إلى أن الكاتب الذي يستحق الرتبة الجليلة الأولى هو ذاك الروح المطهّم الحساس القلق المتوتر المغترب الذي يعيش في الجحيم الجاحم بالضبط. ومثاله المتميز في المسرح هو شكسبير، وفي الرواية دستويفسكي، وفي الشعر المعري، وشطر كبير من شعر المتنبي الذي إذا شعر فإنه لا يبذ. ويتميز تراث دستويفسكي بأنه محاولة كبرى بذلتها الحساسية حصراً، وليس الذهن، وذلك بغية استيعاء الإنسان، أو هذا المنبهم الأعظم المتحرك في عالم منسوج من الانبهام. فالحساسية والشعور بالغربتين الوجودية والاجتماعية، والتخويض في نيران جهنم الدنيوية، تلك هي أكبر مصادر الأدب الرفيع، أو ذاك الذي يملك القدرة الكافية على أن يشق دربه إلى سائر أرجاء العالم. فلا تلوح في الأفق أية علالة لهذا الاغتراب الكالح المرير، الذي أجاد المعري في عرضه داخل الشكل الشعري الموروث، إذ ما من شيء قط يملك أن يمارس برهة التوسط بينك وبينه على أي نحو من الأنحاء، إن كنت واحداً من الحساسين الذين يشقوْن بما يحوزون من رهافة نفس وطيبة وجدان. أما من ليس حساساً فلا تعنيه الآداب من قريب أو من بعيد، والآداب نتاج الحساسية التي هي بنت الوجدان الحي، وصانعة الشعور بالاغتراب، بل صانعة الذائقة والحب والكرامة والالتزام بإنسانية الإنسان. وقلماً يتجسد الوجدان الحي في أية شخصية فنية حديثة كما يتجسد في هاملت، وكذلك في بعض شخصيات دستويفسكي المغتربة المنسوجة من الحيوية نفسها. وفي الميسور أن يذهب المرء إلى أن الاغتراب لا ينفي الحيوية بتاتاً، فحساسية المعري، مثلاً هي نتاج اندلاع حي وليست نتاج ذبول أو خمول. وعندي أن هذا الشعور الجهنمي، أو الشعور بأن هذه الدنيا هي جهنم نفسها، وأننا منذ الآن في الجحيم حصراً، هو واحد من أبرز معايير الأدب الجيد الذي أنتجته عمالقة الجنس البشري المتميزين.
تفاصيل كتاب الشـعر والحساسـية.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: doc
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 21
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T