حقيقة.!

الحطب القديم للإصطلاء والأصدقاء العتاق للإعتماد على إخلاصهم والكتب القديمة لكل هذا .

السـهب وقصص مبكرة.pdf

كيف ينمو العود الغضّ في تربة جافة قاسية، تلفحه شمس حارقة آناً، وتسفعه ريح عاتية آناً آخر، بيد أنه يتشبث بالحياة لأنه موعود بها، فيمد جذوره ويضرب بها في الأعماق، إلى أن يقوى ويصلب، وينبت أوراقاً وبراعم، ثم ما يلبث أن يغدو دوحة وارفة تضج بالحياة؟ كيف بدأ الفتى انتوشا تشيخونته إبداعه الأدبي بتواضع وقناعة في المجلات الفكاهية الرخيصة، ثم شق طريقه خطوة خطوة إلى عالم الفن الأرحب حتى أصبح أنطون تشيخوف؟ الأعمال المنشورة في هذه المجموعة هي الأولى بالعربية التي تتيح لنا إمكانية تتبع التطور الإبداعي لدى تشيخوف منذ بداياته الأولى، فقد احتفظت لنا الصحف الأسبوعية والشهرية الروسية, التي كانت تصدر آنذاك, بكل ما نشره الكاتب، منذ أن كانت الكتابة لديه مصدر رزقٍ وتلبية لدافع مبهم لم يتوضح كنهه بعد، إلى أن أصبحت رسالته الأولى والأخيرة، وقضيته الرئيسة في الحياة. وكانت نقطة الانطلاق في اختيار هذه الأعمال بالذات، هي إعطاء صورة صادقة عن أدب تشيخوف في تلك الحقبة، فهي تضم بعضاً من أفضل أقاصيصه المبكرة، وبعضاً من أساخيره ومُلَحهِ ومعارضاته التي تسهم في تكوين فكرة شبه كاملة عما كان ينشره الكاتب الشاب في صحف ذاك العصر، فضلاً عن قصته السهب التي تُعد نقطة تحول رئيسة في تطوره الفني، وتتسم بأهمية استثنائية في مسيرته الإبداعية. بدأ تشيخوف نشر كتاباته في عام 1880 وهو في العشرين، بعد انتسابه إلى كلية الطب في موسكو. كان قادماً لتوه من مدينة تاغانروغ مسقط رأسه، بعد أن أنهى هناك دراسته الثانوية، ومُنح لتفوقه توصية تؤهله للانتساب إلى الجامعة. فما الذي كان يحمله أنطون الشاب في عقله وقلبه ونفسه من أفكار ومشاعر وانطباعات؟ وما الذي عاناه من الحياة في طفولته وصباه؟ يقول تشيخوف عن نفسه في رسالة كتبها إلى الناشر والكاتب الكسي سوفورين في 7/1/1889 وكان قد أصبح كاتباً مشهوراً: ... اكتبْ قصة عن شاب ابن قن، عمل بائعاً في دكان، ومنشداً؛ عن تلميذ وطالب رُبّي على تبجيل أصحاب الرتب، وتقبيل أيدي القساوسة، والإذعان لأفكار الآخرين، والشكر على كل كسرة خبز، وعوقب بالضرب أكثر من مرة، وكان يذهب إلى الدروس دون جرموق(*)، ويتشاجر، ويعذب الحيوانات، ويحب أن يتغدّى على موائد الأقارب الأغنياء، ويداهن الله والناس من دون أي داعٍ سوى إحساسه بتفاهته. صِفْ كيف يعتصر هذا الشاب العبودية من نفسه قطرة قطرة، وكيف استيقظ ذات صباح فشعر بأن الدم الذي يجري في عروقه ليس دم عبد، بل هو دم إنسان حقيقي. جده كان قناً، وقد افتدى نفسه مع زوجته وأولاده بالمال، وتحرر من القنانة، ولكنه ربّى أولاده بعقلية القن وطباعه. وأبوه، على الرغم من ميوله الفنية، ربى أولاده بالأسلوب نفسه، معتقداً أنه بهذا ينشئهم التنشئة المثلى، كان يحاول أن يملأ كل أوقات فراغهم، ولا يدع لهم أية فرصة يمارسون فيها عبث الأطفال ولهوهم، حرصاً على حمايتهم من الفساد، فيستخدمهم في دكان البقالة التي يملكها، وفي أداء أصوات الديسكانت والآلتو في فرقة الإنشاد الكنسية التي ألّفها من حدّادي المدينة. وكانوا هم يشعرون في أثناء تأديتهم هذه الواجبات أنهم كالمساجين الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة. ولم تكن ظروف حياة التلميذ أنطون في المدرسة بأيسر من ظروف حياته المنزلية. فالمدرسة في تاغانروغ كانت ثكنة حقيقية، بل مصنعاً للعبيد، كما وصفها بعض تلاميذها فيما بعد. وهذا ما جعل تشيخوف يقول فيما بعد: في طفولتي لم أعِشْ الطفولة. وكان الصبي أنطون وأخواه الكبيران ينتقمون من قسوة الحياة وبؤسها بالضحك والتهكم والسخرية، ولاسيما في تلك المسرحيات المنزلية الساذجة التي كانوا يتسلون بتمثيلها في أوقات فراغهم النادرة أو أمام ضيوف الأسرة. كان أنطون ماهراً في الارتجال، وقادراً على تغيير هيئته ونبرة صوته بسرعة، وكان بارعاً في التنكر، إلى درجة أنه تنكر مرة في زي شحاذ ودخل بيت عمه مستعطياً وعاد إلى منزله من دون أن يعرفه أحد. وكانت أسعد أوقات حياته آنذاك هي تلك التي يقضيها في مطالعة أعمال الأدباء الروس والعالميين الكبار، وفي كتابة مشاهد مضحكة يمثلها مع إخوته، ويتقمص هو فيها شخصيات أناس معروفين في المدينة، ساخراً في أثناء ذلك من كل ما يشمئز منه ويكرهه في الحياة التي حوله: الزيف والكذب والغش والظلم والاستبداد، وكان يجد في هذا متنفساً لما يعتمل في نفسه من توق غامض إلى الإبداع وإعادة خلق الحياة خلقاً تعبيرياً مكثفاً هادفاً. في عام 1875 غادر أخواه الكبيران الكسندر ونيقولاي تاغانروغ إلى موسكو لمتابعة الدراسة في المعاهد العليا، وفي العام التالي لحقت بهما الأسرة كلها ما عداه والداه وأخته وإخوته الصغار الثلاثة هرباً من ملاحقة المحكمة لأبيه الذي أفلس وعجز عن قضاء ديونه. وعاشت الأسرة حياة فقر مدقع في شقة قميئة في واحد من أسوأ أحياء موسكو، وبقي أنطون في تاغانروغ وحده ليتابع دراسته، واضطر إلى العيش غريباً في بيت العائلة، بعد أن انتقلت ملكيته بقرار من المحكمة إلى الشخص الذي قضى ديون أبيه. وعلى الرغم من أن الفتى كان يحلم دائماً بالحرية، فإن سفر أسرته إلى موسكو، وتخلصه من أسلوب الحياة الذي كان يرهقه ويقيده لم يشعراه بالحرية، ولم يخففا من همومه ومتاعبه. كانت العيون والألسن تلاحقه وتحاصره كابن قن سابق، وابن بقال مفلس هارب من مدينيه. وكانت الظروف تضطره إلى بيع ما تبقى من أمتعة الأسرة وأثاث البيت، وإلى إعطاء دروس خصوصية مأجورة كي ينفق على نفسه، ويساعد أمه التي كانت تجد صعوبة كبيرة في تدبير شؤون الأسرة في موسكو. فأخواه الكبيران لا يكادان يوفران شيئاً مما يكسبانه من عملهما في الصحافة، وأبوه لم يعد يزور العائلة إلاّ لماماً بعد أن وجد عملاً لدى تاجر في ضواحي موسكو وأقام هناك. وكان أنطون عندما يعجز عن إرسال نقود لأمه يحاول أن يخفف عنها ويبث الأمل في نفسها برسائله المرحة. وقد كتبت له مرة تقول: .. تسلمنا منك رسالتين مليئتين بالمزاح، وفي هذا الوقت لم يكن لدينا سوى 4 كوبيكات للخبز والنور، وكنا ننتظر أن ترسل لنا نقوداً.... في تلك السنوات بالذات (1876-1879)، التي كان على أنطون فيها أن يواجه الحياة وحيداً، أخذت تتكون لديه نفسية المناضل في سبيل الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية. كانت نظرته إلى الحياة والمجتمع تتكون وتتكامل من خلال تجربته الحياتية، وتمثله الأفكار والمفاهيم والمبادئ والمثل العليا التي يستقيها عقله وتتشربها روحه من نبع الأدب والفكر الروسي الثر، ومن مؤلفات الأدباء والمفكرين الأجانب، وقد وجد نفسه يخوض معركتين في آن: معركة مع الذات ليعتصر منها ما امتزج بدمه على حد تعبيره من أثر العبودية، ويحررها من رواسب الزيف والنفاق والاستكانة والخنوع، وكل العيوب التي كانت الحياة من حوله تزرعها في النفوس وتتعهدها بالعناية، ومعركة مع الآخرين الذين لا يرون فيه أكثر من صبي مهيض الجناح، عليه أن يطأطئ رأسه لمن حوله كي يعيش. وقد خاض المعركتين بشجاعة وإخلاص مع النفس، واستطاع أن يفرض احترامه على كل من يتعامل معه عن قرب، وأن يحافظ على كرامته ويذود عن حريته واستقلاليته. وكان نبع الفكاهة الفوار الذي يجيش في نفسه ينهمر فياضاً في رسائله إلى أهله وأقاربه وفي صحيفة التأتاء التي كان يكتبها بخط يده ويرسلها إلى أخويه في موسكو، فيعوض بها عما كان يجده من بهجة وسعادة في تمثيل المشاهد الساخرة معهما في تاغانروغ قبل رحيلهما عنها. جاء أنطون إلى موسكو في صيف عام 1879. وكانت الدراسة في كلية الطب التي انتسب إليها تتطلب منه كل وقته. ولكن أنّى له ذلك وقد وجد نفسه، وهو لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، العائل الوحيد لأسرته. كان لابد له من العمل والكسب ليقوم بأود نفسه ويعيل أسرته. ولم يكن له من خيار سوى أن يكون عمله ملبياً لتلك الحاجة الملحة التي ما فتئت تتنامى في داخله منذ الصغر، حتى لتكاد تملك عليه نفسه كلها، وتطغى على كل ما عداها. وكانت الأقاصيص والفكاهات التي يكتبها أخوه الكسندر، والرسوم التي تبدعها ريشة أخيه نيقولاي، قد وجدت طريقها إلى النشر منذ زمن، مما ساعده على إيصال ما كان يكتبه آنذاك إلى الصحف. وقد نشر أولى أقاصيصه رسالة إلى جار متعلم في التاسع من آذار عام 1880 في مجلة اليعسوب التي كانت تصدر في العاصمة بطرسبورغ، وأخذ ينشر ما يكتبه تباعاً في الصحف الأسبوعية الفكاهية التي تصدر في بطرسبورغ وموسكو بأسماء مستعارة أشهرها: انتوشا تشيخونته (بمختلف أشكاله) وشخص بلا طحال الخ.. وكان انتشار هذه الصحف على نطاق واسع في تلك الآونة من السمات المميزة للحياة السياسية والاجتماعية والأدبية في الثمانينيات، وهي حقبة سادت فيها الرجعية السوداء، ولا سيما بعد اغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881، فكمَّمت الأفواه، وفَرَضَت رقابة صارمة على وسائل النشر، وَوَضَعَت أطراً عامة لا يجوز للصحافة أن تخرج عنها، وقد حرص رؤساء التحرير من جهتهم على الالتزام بهذه الأطر ليضمنوا لصحفهم استمرار الحياة. وكانت هذه الصحف متشابهة على الرغم من تعددها واختلاف أسمائها: اليعسوب، شظايا، المنبه، المُشاهد الخ... وهي صحف أسبوعية تهتم بصنف المنمنمات: أقاصيص قصيرة، لوحات وصفية، مشاهد مضحكة، تعليقات لاذعة على رسوم كاريكاتورية، نكات لا تتعدى بضعة أسطر، حواريات من سطرين أو تزيد قليلاً الخ... ولا شك في أن طابع هذه الصحف والتقاليد التي درجت عليها كانت ذات تأثير كبير في أعمال كل من يطمح إلى النشر فيها. في كنف هذه الظروف بدأ تشيخوف ينشر أقاصيصه ومُلحه المبكرة. فما عساه أن يكتب! طالب في كلية الطب عليه أن يكرس كل وقته للدراسة، رب أسرة كبيرة تعيش في شقة ضيقة لا مكان فيها لطاولة خاصة به للكتابة، ومع ذلك عليه أن يكتب كل يوم ليدفع غائلة العوز عنه وعن أسرته، صحف فكاهية ضحلة لا تنشر إلاّ ما يتماشى مع طبيعتها وتقاليدها ومزاج رؤساء تحريرها، ومع تعليمات الرقابة الصارمة، وكل ما يهمها هو تسلية القارئ وإضحاكه مهما كان محتوى العمل ضحلاً، بل ربما كان الأفضل هو العمل الضحل الذي لا يتعدى خضرة سطح المستنقع، ولا يطمح إلى الكشف عن قذارة أعماقه، وإلاّ أعيد إلى كاتبه، حتى ولو أجازته الرقابة، بحجة أنه لا ينسجم مع طبيعة الصحيفة وأهدافها. أليست هذه الظروف كافية لأن تفسر لنا السبب الذي جعل تشيخوف آنذاك يعمد في بعض الأحيان إلى كتابة أساخير ومُلح لا تهدف إلاّ إلى تسلية القراء وإضحاكهم! ولكن مكر التاريخ أبى إلاّ أن يتجلى في خروج عدو الابتذال والضحالة والسطحية من بين صفحات هذه المجلات الضحلة المبتذلة بالذات. فقوة الإبداع الخفية، والصبوة المخلصة إلى الحقيقة كانتا تقودان الكاتب الشاب إلى دروب جديدة لم يسلكها قبله أحد، وشيئاً فشيئاً شرع القراء والنقاد يتذوقون فيما يكتبه انتوشا تشيخونته نكهة جديدة متميزة لم يعهدوها من قبل في مثل هذه الصحف. المواقف ذاتها، الشخصيات ذاتها، بل حتى أساليب الإضحاك ذاتها، ولكن في الوقت نفسه كل هذا لم يكن ذاته بالمرة... لقد ظل تشيخونته ضمن حدود الصنف الأدبي ذاته، ولكنه حقق تغيير هذا الصنف من داخله. الأقصوصة الفكاهية العادية ارتقت بها موهبة الكاتب المتوهجة إلى مرتبة الجوهرة الفنية، حسب تعبير تولستوي. كان تشيخوف في البداية يدافع عن شاعرية الحرية والصدق والعدالة في الحياة، ويناضل من أجل تربية الشخصية الإنسانية الكريمة من دون أن يولي اهتماماً كبيراً تربية الشخصية الفنية في نفسه، بل وحتى من دون أن يعي تماماً أهمية الجديد الذي يبتدعه في الأدب الروسي والعالمي، ولكنه شيئاً فشيئاً أخذ يدرك أن تربية الإنسان وتربية الفنان في نفسه جانبان متكاملان، وأن عليه أن يقدر أدبه حق قدره، ويعطيه ما يستحقه من الجهد والأناة، ويغار عليه ويتحدى به النقاد الذين لا يعترفون بقيمة هذه النتف التي يكتبها، ولا يعدونها من الأدب الكبير. وخاض تشيخوف معركة الإنسان والفن بعناد، وراح يحرز النصر تلو النصر إلى أن أجبر كبار النقاد على الاعتراف به كواحد من أعظم الكتاب في روسيا، وجعل كبريات الصحف السميكة التي لا تنشر إلاّ أعمال الكتّاب المشهورين تفتح ذراعيها مرحبة بما يكتبه، وتتنافس وتتفاخر بنشر أعماله. وكانت بداية هذا الانعطاف الكبير في مسيرته الأدبية نشر قصة السهب التي أثارت عاصفة من الجدل بين النقاد والقراء جعلت اسم تشيخوف يتردد في جميع الصحف والمحافل الأدبية لمدة طويلة. *    *    * بدأ تشيخوف كتابة السهب في نهاية كانون الأول عام 1887 وأنهاها في الثاني من شباط عام 1888. وكان الدافع المباشر لكتابتها إلحاح الكثيرين من الكتاب والنقاد والناشرين المعجبين بموهبته في إسداء النصح له بكتابة قصة طويلة أو رواية. ومن العجيب أن هؤلاء جميعاً كانوا يشيدون بموهبة تشيخوف، ويبدون إعجابهم الشديد بما يكتبه، ولكنهم يزعمون أن هذه النتف والمنمنمات التي تبدعها ريشته لا تدخل ضمن مفهوم الأدب الكبير، وأنه إذا استمر في كتابتها ولم يوجه موهبته نحو كتابة أشياء كبيرة بالمعنى الحجمي للكلمة، فإنه يقترف إثماً أخلاقياً كبيراً، كما ورد في رسالة د. ف. غريغوريفتش التي وجهها إلى تشيخوف في 25 آذار 1886، تلك الرسالة الشهيرة التي كان لها أكبر الأثر في تعزيز ثقة تشيخوف بنفسه ككاتب، إذ وجد فيها أول اعتراف بموهبته يصدر عن كاتب كبير ومعترف به في روسيا كلها. وعلى الرغم من اعتراف غريغوريفتش بموهبة تشيخوف الفذة فإنه لم يستطع أن ينفذ ببصيرته الفنية إلى جوهر ظاهرة التجديد التي شرع الكاتب يشق لها الطريق لتصل في نهاية المطاف إلى مصاف الأدب الكبير كظاهرة فريدة في تاريخ الأدب العالمي. فهو يقول في الرسالة ذاتها ... دع العمل المتعجل... من الأفضل لك أن تجوع كما جعنا نحن في زماننا، صُن انطباعاتك لعمل متروٍّ... عمل واحد كهذا سيقدَّر أكثر بمئة مرة من مئة أقصوصة رائعة مبعثرة في أوقات مختلفة على صفحات الجرائد.... والأعجب من هذا أن ولوج عالم الأدب الكبير كان في رأي الكثيرين لا يتوقف على كتابة أشياء كبيرة فحسب، بل لابد للكاتب من أن ينشر أعماله في المجلات السميكة التي لا تنشر إلاّ أعمال الكتاب المشهورين. وكان تشيخوف في سنواته الأخيرة يتذكر تلك المرحلة من حياته الإبداعية ويقول للكتاب الشباب بلهجة يختلط فيها المزاح بالجد كما يروي بونين وتيليشوف في ذكرياتهما عنه: إنكم يا كتاب اليوم تنعمون الآن بكتابة الأقاصيص القصيرة، فالجميع قد اعتادوها، وهم يمدحونكم عندما تكتبونها؛ أما أنا فقد كنت أتعرض أحياناً للذم بسببها، وأي ذم! كانوا يقولون لي إذا كنت تريد أن تسمى كاتباً عليك أن تكتب رواية وإلاّ فلن يصغي إليك أحد ولن يتحدث عنك أحد ولن تقبلك أية مجلة جيدة. أنا الذي هدمت لكم الجدار بجبهتي لأشق أمامكم طريق كتابة الأقصوصة القصيرة. *    *    * نُشرت قصة السهب في مجلة بشير الشمال استجابة لرجاء رئيس تحريرها ن. ميخايلوفسكي. وكانت هذه أول قصة كبيرة يكتبها تشيخوف وينشرها في مجلة سميكة. وقد أثار العمل الجديد ردود فعل مختلفة. فالكاتب والناشر سوفورين نسي وهو يقرؤها أن يشرب فنجان الشاي، وغيّرته له زوجته ثلاث مرات، والناقد بيترسين أخذ يسير على رأسه من شدة الإعجاب، والشاعر بليشييف قرأها بنهم شديد ولم يتوقف عن القراءة إلى أن أنهاها، وقد وجدها هو وكورولينكو بديعة جداً وفيها شاعرية لا حدود لها. وأقدم بعض النقاد على المقارنة بين تشيخوف وكبار الكتاب الروس مثل غوغول وتورغينف وتولستوي معترفين له بالفرادة والأصالة وبأن ما يجمعه بهم هو الروح الواحد المتجسد في التصوير الصادق للحياة والطبيعة والإنسان. بينما وجد نقاد آخرون وهم الأكثرية أن مثل هذه المقارنة لا مسوغ لها، وأن تشيخوف لم ينجح في كتابة قصة طويلة، بل إن ما كتبه هو مجرد لوحات وصفية رصفت إحداها إلى جانب الأخرى، وأن وصفه للسهب بالذات لم يصل إلى المستوى الذي بلغه غوغول في قصة تاراس بولبا. بعض النقاد سمّى السهب قصيدة ملحمية منثورة، ورأى أن كل ما فيها مفعم بالحياة والصدق والشاعرية، وبعضهم وصفها بأنها عمل اثنوغرافي أكثر منه قصصي، ويتسم بالطابع الوصفي البحت. وكانت أكثر الآراء تميل إلى أن العمل ليس له مضمون موحد، بل هو مجموع وصْفِيّات نُضّد بعضها فوق بعض فجاء متعباً للقارئ وباعثاً على الملل أحياناً، وأن القصة يمكن تجزئتها إلى أقاصيص مستقلة، أو أنها تصلح لأن تكون مَدْخلاً لرواية طويلة يتتبع فيها الكاتب مصائر أبطاله ويطورها فنياً حتى يصل بها إلى غاياتها الموضوعية. لقد طبق هؤلاء النقاد على القصة الجديدة مقاييسهم القديمة التي تنبثق من مواقفهم الاجتماعية وبرامجهم الجمالية، فنشأ عن هذا وضع طالما تكرر في تاريخ الأدب والفن: وذلك عندما يظهر عمل يتسم بالتجديد الأصيل، ويوضع ضمن أطر التصورات التقليدية والذوق السائد، فإذا به يبدو عملاً ناشزاً لا تتوافر له مقومات النجاح. وكان مما يدعو للاستغراب أن النقاد الذين انتقصوا من قيمة السهب كقصة طويلة لم يستطيعوا إلاّ الاعتراف بأن العمل بحد ذاته جيد، وأن الوصف فيه يبلغ حد الروعة أحياناً، وأن بعض شخصياته تبدو حية من لحم ودم، وأن موهبة الكاتب لا شك فيها الخ... بيد أن أحداً من هؤلاء لم يستطع أن يرى ذاك المدى الرحب من المضمون الداخلي الذي كتب عنه الشاعر بليشييف في رسالته إلى تشيخوف بعد قراءة السهب. كان ما يهمهم في المقام الأول هو المضمون الظاهري أو الأحدوثة العزيزة جداً على الجمهور، وقد حجب غيابُها عن بصيرتهم رؤية المضمون الداخلي المبثوث في ثنايا القصة، وسماع نغمة اللحن العامة التي ترافق القارئ من البداية حتى النهاية، واشتمام الرائحة الفاغمة التي تملأ فضاء القصة الرحب، واستشعار المزاج الشاعري السائد في العمل كله، مما يجعل من السهب نشيداً احتفالياً يضج بفرح الحياة والطبيعة ويتغنى بعظمة الوطن. لقد كان تشيخوف أول فنان يجد في الرتابة الخارجية للمنظر السهبي عالماً كاملاً من الألوان والأصوات، ويصور السهب كائناً حياً يحن إلى السعادة كما يحن لها أبطال القصة الذين يعانون من الوحشة، ويتوقون إلى حياة أخرى، لا تهدر فيها قوى الشعب الإبداعية سدى.. وشيئاً فشيئاً يندمج كيان السهب بكيان الوطن الذي يصبو إلى حياة جديدة يتجلى فيها كأكمل ما يكون التجلي كُلُّ ما يختزنه من قدرات وثروات ومواهب. أليس في هذا ما يحقق الوحدة الفنية التي افتقدها النقاد في القصة؟! بقيت السهب مدة طويلة موضع أخذ ورد، وكان أكثر المعجبين بها هم أدباء ذاك العصر لا نقاده، فقد وصف سالتيكوف شيدرين القصة بأنها رائعة وأنه يرى في تشيخوف موهبة حقيقية، وقال عنه غارشين الذي خلبت القصبة لبه: ... لقد ظهر في روسيا كاتب جديد من الطراز الأول... وامتدحها تشيرنيشيفسكي في رسالته إلى باريشيف، أما كورولينكو فقد حلل القصة وبين جمالياتها وكشف عن جوهر التجديد فيها، وفند آراء النقاد الذين لم يستطيعوا أن يستشفوا ما تحت النص وما بين السطور، وكانت السهب أحد أربعة أعمال لتشيخوف يمتدحها ليف تولستوي دائماً وهي: الأطفال ووحشة والسهب وحبوبة. وأياً كانت آراء القراء والنقاد في السهب عند صدورها فإن نشر هذه القصة بالذات دشن مرحلة جديدة في تاريخ أدب تشيخوف ومسيرته الفنية، ولم يعد الأدب بعد ذلك عشيقته والطب زوجته الشرعية كما كان يقول، بل أصبح الأدب زوجته الحبيبة التي وهبها فكره ونفسه وكيانه كله، وغدا على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل أن يزين جيدها بقلائد لا يخبو لألاؤها على مر العصور.   المترجم

السـهب وقصص مبكرة.pdf

تفاصيل كتاب السـهب وقصص مبكرة.pdf

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 26

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: