علـى خُطَا المتنبِّـي في أَسْفَارِه وأشعَارِه ِ.pdf
يَصْعُبُ الفصلُ بينَ رِحْلةِ المتنبِّي وسِيْرتهِ؛ فرحلتُهُ سيرةٌ، وسيرتُه رحلةٌ. فهو جَوِّابُ آفاق، سَلََخَ مُعظَمَ سنواتِ عُمرِه متنقِّلاً من بلدٍ إلى آخرَ لا يَقَرُّ له قرارٌ، فَاتَّخذَ من ظُهورِ المطايا مُقاماً، ومن رِحالها أَرْضاً تلك كانت حالُهُ مُنذ خروجه من العراق إلى بلاد الشام، وتطوافه في أرجائها إلى أن لَقيَ سيفَ الدولةِ؛ فَبَسَمَ له الحظُّ في كَنَفِهِ، وأَكرمه غايةَ الإكرام، وأَغدق عليه أَيَّما إغداق، فكان يُعطيه كلَّ عامٍ ثلاثةَ آلافِ دينار بالإضافة إلى ما كان يَمنحُهُ من عطايا وهباتٍ نفيسة. ولكنَّ حُسَّادَهُ وشانِئيه من الشُّعراء وسواهم نَقِموا عليه؛ فبيَّتُوا له المكائدَ، وناصبوه العداءَ حتى فَرَّقوا بينه وبين سيف الدولة؛ فقصد مصر لعله يتمكَّنُ من تحقيق ما تصبو إليه نفسُه في كنف كافور الذي دعاه إليه مرَّتين وهو في دمشق. فلما بلغ الفُسْطاطَ أَنزله داراً فخمةً، ووكَّلَ به الخدمَ، وأَغْدقَ عليه المالَ ظنًّا منه أَنَّ ذلك يكفيه، ولكن أَبا الطيِّب لم يكن طامعاً بالمال فحسْبُ، وإنما كانت تتوقُ نفسُهُ إلى الولاية، وهو ما أَخاف كافوراً؛ فماطله حيناً، ولم يُجِبْهُ إلى طلبه. ثم منعه من الرحيل خوفاً من لسانه، وهو ما حمله على مغادرة الفُسطاط إلى الكوفةِ خِفْيةً دون وَداع! ومن الكوفة توجَّه إلى بغداد، فلم يَطِبْ له فيها المُقام؛ فقصد أَرَّجان بدعوةٍ من ابن العميد وزير ركن الدولة، ثم استزاره عضدُ الدولة بشيراز، حيث لقي في كنفهما من الحفاوة والتكريم ما لم يحلمُ به شاعرٌ في زمانه. ولكن ذلك لم يُنْسِه غدرَ الزمان الذي اضطرَّه إلى مدح هؤلاء الملوك الذين يُملِّكهم شيئاً يبقى ببقاء النَّيِّرين، ويُعْطُونه عَرَضاً فانياً وهو على يقين بأَنَّه الأجدرُ بالسيادةِ والمجد. لأنه في نظر نفسه خيرُ مَنْ تسعى به قَدَمُ....! ولعله من نافل القول أن نُشيرَ إلى أن أبا الطيب آثر أَنْ يدوِّنَ رحلةَ عمره شِعْراً ضَمَّنه ما كان يَعْتَمِلُ في نفسه من هُمومٍ ومشاغلَ، وما عاينه من أحداثٍ ومشاهدَ، ولكنه لم يَسْتوفِ ما يُمكنُ أن تَلْحظَهُ عينُ الرحَّالةِ من أَحوال البلدان، وخَصائصها، وما يتَّصف به ناسُها من أَخلاقٍ، ومآثرَ، وعاداتٍ، ومعتقداتٍ، إلى غير ذلك من الانطباعات التي تستأْثرُ عادةً باهتمامِ الرحالين، وتدعوهم إلى إِعمالِ النظرِ في درسِ الأَماكن، وما تتميَّزُ به من خصائص؛ لذلك خطر لي - من قَبيل الفضولِ، أو من باب اللَّهو - أن أَترسَّم المسالكَ والطُّرقَ التي حَسِبتُ أن المتنبي سلكها في تَطْوافه، وأَنْ استعيدَ بعينَيْ زمانه، صُوَرَ الأمكنة التي أَلـمَّ بها، أو أقام فيها معتمداً في تحديدها ووصفها على ما ورد في كتب المسالك والممالك، وفي كتب البلدان العائدة إلى زمن المتنبي، ثم شفعتُ ذلك بنماذج من قصائدهِ المتَّصلةِ بتلك الأماكن وبالأشخاص الموجَّهةِ إليهم، في محاولة للجمع بَيْن الجغرافية والشعر، ولستُ على يقين من صواب ما أقدمتُ عليه، ولكنّ ما يُسوِّغ عملي هذا هو استحضار الأمكنة، والدواعي التي أَلْهمت المتنبي قصائدَهُ، وآياتِه الخالدات. وإتماماً للفائدة لا بد من الإشارة إلى ما يلي: 1- وُلِد أحمد بن الحسين الملقّب بالمتنبِّي في مدينة الكوفة سنة 303هـ لأبٍ يُدعى الحسين الجُعْفيّ، والجعفي بطن من سعد العشيرة من مَذْحِج اليمانية التي استقرّ بعضُها في العراق إثر الفتح الإسلامي. أَمَّا أُمُّه فَهَمْدَانيَّة، وهَمْدان من القبائل اليمانيّة التي توطَّن فريقٌ منها في العراق بعد الفتوحات، وكان أبوه يعمل سَقَّاءً في الكوفة. ماتت أُمُّهُ في وقتٍ مبكرٍ، فَرَبَّتْهُ جدّتُه لأُمه، وغمرته بعطفها وحنانها الذي لم يَنْسَهُ بمرور الأيام. وكانت هذه الجدَّة من صُلحاء النساء الكوفيات. تميَّز أبو الطيّب منذ نعومة أظفاره بذكاءٍ وقَّاد، وميلٍ إلى الدرس والتحصيل، وظهرتْ مواهبُهُ الشعرية في سِنٍّ مبكرة. تلقّى تعليمه الأوليّ في كُتَّاب فيه أولادُ أَشرافِ الكوفةِ، فكان تلميذاً فقيراً بين رفاق أغنياء. تأَثَّر بالعقيدة الشيعيَّة التي أخذها عن أبيه، ولا يُستبعدُ تأَثُّرُهُ بالتعاليم القرمطية. 2- غادر الكوفةَ بصحبة أبيه إلى بادية السماوة، وذلك سنة 313هـ على وجه التقريب، وله من العمر عشر سنين، فأقام فيها نحو سنتين ضيفاً على بني الصَّابي، وهم بَطْنٌ من جُشَم بنِ هَمْدانَ أَجدادِ المتنبّي لِأُمِّه، حيث أُتيح له في هذه الفترة تلقّي العربية من منابعها الأكثر أصالةً-. 3- عاد إلى الكوفة سنة 315هـ بدويًّا قُحًّا، فأقام فيها نحوَ سنةٍ. 4- ارتحل إلى بغداد سنة 316هـ فأقام فيها نحوَ سنتين. 5- غادر بغدادَ سنة 318هـ متوجهاً إلى الجزيرة وشمالي الشام، فتنقَّل في بواديها وحواضرها حتى سنة 346هـ. ومدح خلال هذه المدّة عدداً من أَعيانها وأُمرائها إلى أن انتهى إلى سيف الدولة بحلب حيث عاش في كنفه نحو تسع سنين، شارك خلالَها في معظم حروبه وغزواته. 6- ارتحل من حلب إلى الفُسطاط سنة 346هـ فأقام فيها أربع سنين وبضعة أشهر في كنف كافور الإخشيدي. 7- غادر الفُسْطاطَ عائداً إلى الكوفة سنة 350هـ، فوصل إليها في ربيع الأول سنة 351هـ، واستغرقتْ رحلةُ العودةِ نحوَ ثلاثةِ أَشْهُرٍ، ولم تَدُمْ إقامتُهُ فيها أَكْثَرَ من سنة. 8- ارتحل إلى بغداد سنة 352هـ، ثم عاد إلى الكوفة في أول شعبان من السنة نفسها. 9- غادر الكوفةَ لآخر مرة متوجِّهاً إلى أَرَّجان من بلاد فارس في شهر محرّم سنة 354هـ (كانون الثاني 965م) بدعوةٍ من ابن العميد وزير ركن الدولة، فوافاها في شهر صفر من السنة نفسها، ولبث نحوَ شهرين في ضِيافة الوزير. 10- غادر أَرَّجان متوجِّهاً إلى شيراز في شهر ربيع الثاني سنة 354هـ تلبية لدعوةٍ من عَضُدِ الدولة البويهي؛ فبلغها في شهر جمادى الأولى سنة 354هـ . 11- غادر شيراز في شهر شعبان من السنة نفسها عائداً إلى العراق. 12- في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 354هـ قُتل هو ومن معه على يدِ عصابةٍ يقودُها فاتكُ ابن أبي جهل الأَسديّ، بالقرب من دير قُنَّى على الضّفة الشرقية من نهر دجلة، وذهبت دماؤهم هدراً. وقد حاولت في هذا الكتاب أن أتتبَّع خُطا المتنبّي في أسفاره وأشعاره، منذ خروجه من الكوفة إلى بادية السماوة سنة 313هـ حتى مصرعه وهو عائد من شيراز إلى بلده سنة 354هـ. فإن حالفني شيءٌ من التوفيق، فهو بُغيتي.
تفاصيل كتاب علـى خُطَا المتنبِّـي في أَسْفَارِه وأشعَارِه ِ.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 24
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T