رسالة إلى سيدة.pdf
ابتداءً، أود أن أنوّه بأنني أوجّه هذه الرسالة إلى صورة المرأة الكلية، أو التجريدية، أكثر مما أوجهها إلى امرأة معينة أو محددة الهوية. وجُلّ أمرها أنها محاولة أتوخّى من ورائها أن أنتج نصاً أدبياً له بعض المزايا الجمالية التي قد تجعله صالحاً لإنتاج المتعة الأدبية أو الفنية. ومع أن لهذا النص مناخاً يشبه مناخ الرواية الحديثة، إلا أنه لا ينبغي أن يكون رواية ولا قصيدة نثر. ولعل الأنسب أن أسمي هذه الرسالة نصاً أو كتابة بالمعنى الدارج لكلمة النص أو لكلمة الكتابة. والمقصود من هاتين الكلمتين اليوم هو النص الأدبي الذي لا يقبل التصنيف في أي جنس من الأجناس الأدبية التقليدية، كالرواية أو القصة أو المسرحية أو القصيدة، وذلك لأنه جنس لا يدخل في أي باب من الأبواب المألوفة. بيد أن هذه الرسالة تشبه الرواية والقصيدة فعلاً. ومما يشجعني على أن أذهب هذا المذهب هو أنها تنطوي على ذكر أحداث تشبه أحداث الرواية، كما يندرج فيها شيء من روح الشعر التي أؤمن بأنها ينبغي أن تنبث في كل عمل أدبي ذي بال، وأن تتخلل معظم خلاياه، أو تغلغل في الكثير من شذراته وتفاصيله، وإلا غابت عنه اللدانة، أو غابت المزية، بل خرج من فصيلة الأدب ودخل في ماهية أخرى لا يسعني تحديدها. والحقيقة أننا حين نصنع شكلاً فنياً فإننا نزوّد الشعور بقوام متماسك أو بهندام يليق به تماماً. ولكن ما يستحق الذكر ههنا هو أن كاتب هذه السطور، الذي لا يزمع إلا إنتاج نص أدبي ممتع وصالح للقراءة بالدرجة الأولى، قد أحبّ فتاة يانعة حباً عذرياً صادقاً في سالف زمانه، أو يوم كان في مقتبل العمر منذ أكثر من نصف قرن، وعايشها فترة من الزمن ليست بالقصيرة. ولقد تزوجت تلك الفتاة ورحلت إلى البعيد، ولم يرها إلا مرة واحدة، وذلك بعد مضي تسع سنوات على مغادرتها لمدينة دمشق. وفي الحق أن تلك التجربة الغرامية ليست سوى الهيكل العظمي لهذه الرسالة التي يتدخل فيها الخيال كثيراً، بل كثيراً جداً، وذلك ابتغاء إنجاز غرضها الأكبر، أعني إنتاج نص أدبي ممتع قد يصلح تعويضاً عن قبح هذا الطور التاريخي الكئيب. إذن، صار ناصعاً أن النص الراهن منسوج من مادة واقعية، ولكنها خام، أو من حادثة حقيقية، ولكنها نحيلة جداً. وهذا يعني أن كاتب النص قد حاك من الأخيلة الشيء الكثير وأضافه إلى الواقعة التي لا تؤلف من هذه الرسالة سوى عظامها، بل سوى شبح النص، ليس إلا. وأحسبني قد بينت ما فحواه أن هذا النص لا يبتغي وصف شيء كان له وجود فعلي في دنيا الواقع، بل هو يهدف إلى إنشاء أخيلة وأفكار تنتسب إلى قبيل الأدب دون سواه. وهذه حال لا تشين الرسالة الراهنة بتاتاً. فربما جاز لي أن أزعم بأن عالم الخيال أشرف من عالم الواقع وأنبل. ولكنني جازم بأنه أمتع وأحلى وأبهى وأكثر امتلاءً بالعذوبة والجاذبية، وذلك لأنه يخطف النفس ويأخذها إلى البعيد، فينجز للمرء سياحة في النائيات، أو ربما في فسحة عالمه الداخلي حصراً. ولعل أهم ما يبتغيه كاتب هذا النص من وراء تدبيجه له هو أن يتمكن من الإسهام في تجاوز الضعف الذي راح يعتور الأدب العربي خلال الطور التاريخي الراهن. ففي حسباني أن الكتابة العربية قد أخذت تسفّ وتتضع في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، أو إثر وفاة ابن عربي في دمشق سنة 1240م، وأن هذا الاتضاع قد ترسخ بعد ثلاثمائة سنة تقريباً، أو بعد الاحتلال العثماني لشطر واسع من الوطن العربي، وذلك إثر معركة الريدانية سنة 1517م. فقد اعتادت اللغة العربية قبل ذلك أن تنتج، في ما تنتج، ثلاثة أصناف من أكابر الكتاب، وهم الشاعر والمؤرخ والصوفي (المتنبي وابن الأثير وابن عربي، مثلاً). ولكن هذه الأصناف الثلاثة قد اندثرت منذ بداية العصر العثماني حتى اليوم، ولم نحصل على ما يعوّض عنها إلا لماماً، وذلك على الرغم من نشوء بعض الظواهر الخلّب التي حاولت أن توهم الناس بأن إحياء الكتابة العربية قد أخذ يدب في شرايين النصوص الجديدة. وهذا يعني أن الاتضاع قد استمر حتى الآن، أي حتى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ولعل في ميسور من كانت له بصيرة ثاقبة أن يراه رابضاً في جوف النصوص الأدبية الحديثة، ولنقل في معظمها إن لم يكن في مجمل منجزاتها. وما دام الحال على هذا النحو الإشكالي، فقد بات من واجب أهل الغيرة والحميّة أن يبذلوا قصارى جهودهم كي ينجزوا استقلاباً في سيرورة الأشياء، فيرفعوا مستوى الكتابة العربية من الحطة إلى الرفعة الباذخة. ولا مرية في أن هذا الاستقلاب المأمول هو المهمة الكبرى للنخبة الثقافية العالية التي حاولت الغوغائية الحديثة المنخرطة في عصابات تهديمية منظمة أن تطفئ وجودها، أو أن تعطبها فتصيبها بالشلل. وفي رؤيتي أن الفرصة مهيأة جداً لانتصار الغوغائية في هذا الزمن الذي شبّه أحد الشعراء القدامى زمناً مثله بجلد الأجرب. كما أومن بأن إحياء الكتابة العربية السامية التي تتبنى قيماً وأخلاقاً ليست غريبة عن مجتمعاتنا الشرقية، هو عمل وطني جليل لا يقل أهمية عن إعادة إدراج الأمة العربية في سياق التاريخ البشري الشامل، أو عن إيلاجها إلى داخل النسق الكلي لحركة العالم، وذلك بعدما فككها الزمان ونفاها إلى أقصى الهوامش الهامدة. وفي زعمي أن تدبيج النص الراهن ما كان له أن يتمّ إلا من أجل هذا الغرض حصراً. أما أن يكون قد أدى مهمته أو لم يؤدها البتة، أو هو قد أداها على نحو نسبي وحسب، فذاك شأن متروك لحصافة القارئ الأريب، بل لجريان الزمان الذي أعتقد بأنه الناقد الأعظم، دون مراء. ولكنني ميال إلى الظن بأنه لن يكون بغير جداء، مهما يكن الأمر، وذلك لأنه محاولة أرجو لها ألا تكون موهونة أو هزيلة الحال، وأن تهدف إلى الإسهام مع جهود أخرى بذلها بعض المتميزين من أجل تفعيل معجم الضاد واستنفاره بكثافة، وذلك لتصير اللغة قادرة على أن تتكلم بدلاً من أن ترطن وتلغو. ففي قناعتي أن استرداد المستوى الذي بلغه أسلوب النفري، وهو من وصل النثر العربي بعد القرآن الكريم إلى أوجه على يديه، لا يقل عن كونه بغية نفيسة لا محيد عن إنجازها كي يترسخ إحياء الكتابة العربية إلى حد لا لبس فيه ولا جدال. وعندي أن البلوغ الفعلي إلى هذه البرهة الرفيعة هو المعيار الأكبر لانتصار النخبة الضامرة على الغوغائية الظافرة والنافية لكل سموّ على الدوام. * * * وأياً ما كان جوهر الحال، فإن مما يؤكد الطابع الأدبي، بدلاً من الواقعي، لهذه الرسالة الراهنة أنها تضفي على المرأة التي يتوجه إليها الخطاب بعضاً من السمات أو الصفات الصوفية. فلا يخفى أنها تحاول جاهدة كي تصوغ صورة لامرأة شديدة الشبه بصورة المرأة التي صاغها ابن الفارض في شعره، ولاسيما في التائية الكبرى، كما تشبه صورة المرأة التي رسمها ابن عربي في بعض قصائده، وكذلك في بعض نثره. وأتمنى من صميم قلبي أن تتمكن هذه الرسالة من البرهنة على أنني تلميذ لابن عربي وابن الفارض، أو أقله أن أكون متأثراً عميق التأثر بفهمها للغرام الكلي الشامل. فلئن فعلت هذا فإنني سوف أبتهج كثيراً، وذلك لأنني أكون قد التزمت بأسوة حسنة، أو بأسلاف فالحين، سواء في الفكر أو في الغرام. والحق أن كلاً من هذين الكاتبين قد حاول أن يرفع المرأة إلى أفق باذخ شامخ، وذلك انطلاقاً من إيمان الصوفية، وهي الموغلة في التفاؤل واحترام الحياة، بأن الأنوثة هي قوة الخلق والابتكار والإبداع في الكون كله، أو لنقل بأنها الينبوع الذي ينبع منه كل موجود حي. وهذا يعني أنها ظل الله على الأرض، أو الحامل الأول لإرادته الفاعلة. وفي موضع من مواضع تراث ابن عربي، وهو تراث ضخم وشاسع المساحة، وربما في أكثر من موضع واحد، يوحي ذلك العملاق، الذي لا يخلو من متاعب فاحشة، بأن الذكر حين يبدع، فإن الأنثى التي تحايثه هي التي تنجز كل إنجاز ذي بال. ولهذا، اعتقدت الصوفية بأن المرأة، أو الأنوثة جملة، هي اللب الذي يحتل مركز الوجود برمته، فكان أن رفعها بعض الكتاب الصوفيين إلى أسمى مرتبة بين جميع مراتب الإمكان، فصارت في نظرهم تلك القوة الخالقة على مدى الكون بأسره. ولما كان للمرأة موقع كهذا الموقع، سواء في الوجود أو في مذهبهم، فقد نظروا إلى العالم بوصفه تجسيداً للحسن الذي هو السمة الأولى للأنوثة. ولهذا، قال ابن عربي في المجلد الثاني من الفتوحات المكية: ما ثمة إلا جمال. (ولكن المذهب المثنوي يؤكد أن من المتعذر أن يكون هنالك جمال دون أن يتنطع له القبح.) . وكما أسلفت للتو، فإن هذه الرسالة الراهنة لا تتوجه إلى أية امرأة بعينها، بل هي تتوجه إلى كنه الأنوثة أو الجوهر النسوي بوصفه تجريداً شاملاً لجميع النساء. وهذا يعني أنها تلتقي مع ابن عربي حين يقول في الجزء الثاني من الفتوحات المكية: وألطف ما في الحب أن تجد عشقاً مفرطاً يعتلج في نفسك، ولا تدري في من ولا يتعين لك محبوبك. وبهذه الصفة، فإن النفس تجهل حالها، ولا تدري بمن هامت، ولا في من هامت، ولا ما هيمها. وعندي أن هذا الشأن دليل على أن ذروة الغرام هي الحنين إلى جوهر الأنوثة، وليس إلى ذرة محددة من تعيناته التي لا تحصى ولا تعد. وللحق أن ابن عربي، وهو أستاذ بغير تلاميذ في هذا الزمن القاحل الذي يوهم بأنه خصيب، قد أنجز نظرية في الحب بثّها داخل مؤلفاته، وأن تلك النظرية الجديرة بالدرس والتمحيص والتنمية والتحسين، هي أقدم إنجاز من صنفها في التاريخ البشري كله. ولئن كنت شديد الإعجاب بفكر ابن عربي، فإنني أشد التصاقاً وولعاً بشعر ابن الفارض، وهو من أراه التجلي الأمثل للدماثة واللطافة وهيف الوجدان. ولهذا، فقد جاز الظن بأن ذلك الشاعر واحد من نقاوة الشعراء الذين أنجبتهم الثقافة العربية التراثية، وبأنه يصلح للإسهام في تربية الجنس البشري، إلى جانب دانتي وشكسبير. وعندي أنه قد أثّر في شاعر إيطاليا الأكبر، كما أن ذلك الإيطالي قد أثر في وريثه الانجليزي. وهذه حقيقة لم ينتبه لها أي من الذين درسوا تراث دانتي. ففي الحق أن بياترس، بطلة الفردوس، هي صورة استلها الشاعر من جوف الصوفية العربية، ولاسيما من التائية الكبرى التي قرضها ابن الفارض قبل ولادة دانتي بنصف قرن، أو زهاء ذلك. إنها شديدة الشبه بإلهي المطلقة التي يحاورها شاعر الصوفية العربية الأكبر في تلك القصيدة نفسها. بيد أن عدم التشابه أو التماثل بين الصورتين، أعني صورة المرأة في هذه الرسالة الراهنة وصورتها في شعر ابن الفارض، لا يعني البتة أن هذا النص الحالي قد أخفق فذهب أدراج الرياح، بل يعني بالضبط أنه ظل مقصراً عن الشأو المرجوّ. وههنا صار لزاماً عليّ أن أنتهي أو أكف عن كتابة هذه الكلمة التوضيحية الوجيزة التي لا بد منها، وذلك لأن غرضها الختامي قد صار ناصعاً تمام النصوع.
تفاصيل كتاب رسالة إلى سيدة.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 7
مرات الارسال: 44
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T