حقيقة.!

من يكتب يقرأ مرتين.

حياتي فـي الفن.pdf

للمؤلف: كونستانتين ستانيسلافسكي
شغل الممثل والمخرج الروسي الشهير كونستانتين ستانيسلافسكي (ألكسييف) 1863-1938 الفنانين والكتاب المسرحيين في القرنين الماضيين، وما يزال يشغلهم، بأبحاثه وطروحاته النظرية وفكره المتنور، الذي لم يركن إلى الثبات أبداً، ولم يحتفِ بالناجز غير القابل للسجال، أو المقدس، الذي لا تجوز مساءلته، وتقابل قارئ (حياتي في الفن) هذه الملامح والسمات، التي تمايز عقل ستانيسلافسكي المنفتح على حرية الرأي والقدرة على سماع الآخر أياً كان دون عقد أو فوقية. وتكمنُ أهمية هذا الفنان، في أنه الأول الذي جعل مدينته موسكو مركزاً للفن المسرحي، لا طرفاً هامشياً لا يُسمُع له صوت،كانت موسكو - كما كان يراها الغرب - متخلفة، ليس فيها ما يثير الانتباه، والعيون كلها كانت تتجه إلى باريس ولندن والنرويج، باعتبارها العواصم التي تطلق صيحات التجديد، وتبشّر بالثقافة المسرحية والأدبية، التي تُخلخل الراهن، وتعيد ترتيبه. لم يأت مؤلف (حياتي في الفن) إلى هذا الأخير مصادفة، ولذلك لم يكن عابراً، أو رهين مزاج. تضافرت عوامل عديدة على إنتاجه، وبالتالي دفعه إلى الأمام، ومن ثم خلع الشرعية عليه، ومنطقته وتسويقه فيما بعد. يحكي (كوستيا) قصة ولعه بالمسرح منذ طفولته، بل ربما بعبارة أدق منذ تعلقه المبكر بهذا الفن الذي منحه حياته كلها، وأحبه بلا رهانات أو حسابات براغماتية، نقل المسرح من بيته وجمع أخوته حوله، وأسس (حلقة ألكسييف) نسبة إلى الاسم الحقيقي للعائلة، ولم تمضِ إلا سنوات قليلة، حتى انتقل إلى (رابطة أو جمعية الفن والأدب) 1988، ومن نافل القول إنه لم يكن ليفعل ذلك لولا البيئة الأسرية الحاضنة، والوفرة المادية التي كانت تنعم بها، وسعة الأفق، وفتح النوافذ والأبواب - فيما بعد - على كل ما هو جميل ومضيء، قادم من خارج روسيا، بدءاً من اللغة، وانتهاءً بنمط الحياة. عشق ستانيسلافسكي التمثيل، وأوغل في دراسته، ولم يَكُف حتى آخر أيامه، عن البحث في العمق عن كل ما هو جوهري، وداخلي، وروحي فيه، بحث عن بذرة الشخصية، وعن الفعل المتغلغل، اللذين يحددان ويعرّفان سلوك الإنسان، ولم يفكر في يوم من الأيام، بالفن خارج الحياة، أو بالفن الذي يدير ظهره للواقع، ولكن لم يتوقف عند سطحه، بل ذهب إلى ما هو أبعد، عندما رأى أن على الممثل أن يتوسل الخارج من الداخل، بعبارة أوضح، ملامح الشخصية، حركاتها، أفعالها، تنطلق من الداخل، وستانيسلافسكي الممثل الموهوب والمبدع، هو نفسه الإنسان الحالم والحساس والذكي، سريع البديهة. تروي الممثلة أولغا كنيبر (الممثلة في فرقة مسرح موسكو الفني، زوجة الكاتب تشيخوف) كيف كان يؤدي دور الطبيب أوستروف في مسرحية (الخال فانيا). الشخصية المثقفة الباحثة عن روسيا الجميلة، المتقدمة، الإنسانية، خارج الراهن المزري الحافل بالعطالة الفكرية وضيق الأفق، فتقول: (تنظر إلى ستانيسلافسكي، فتصدق أوستروف، ترى اليد الحانية التي غرست الغابات، تنظر إلى العيون، فتصدقها، وهي تعيش الحياة اليومية، بل ترى إلى ما هو أبعد، في قادم الأيام) ولولا تطلع ستانيسلافسكي إلى المستقبل، وإيمانه بالحراك وديناميته لما أنجز ما أنُجز. في مسرحية أبسن (عدو الشعب) كان رهانه على المستقبل (ثورة أكتوبر 1917)، ولذلك أضاف إلى شخصية ستوكمان - بطل المسرحية - بعداً ثورياً ليتماهى الأخلاقي بالثوري. لقد أدرك بنظرته الثاقبة أنَّ الجرأة والصدقية اللتين يتحلى بهما تؤهلانه، ليكون بطلاً سياسياً. قدمت المسرحية في موسم 1900-1901. وفي مسرحية مكسيم غوركي (الحضيض)، لم يكن الانتماء الطبقي ما يمايز البطل ساتين، وإنما إنسانيته، وهو على هذا الأساس - كما يقول ستانيسلافسكي - يحمل إنسانية الوسامة. آخر الأدوار التي لعبها، كان في خريف 1928، وكانت المناسبة تنطوي على ذكرى خاصة حميمية، وحنين (نوستالجية) إلى عواصف الإبداع، التي لم تطفئ شعلتها الهموم وخيبات الأمل، كانت ذكرى مرور ثلاثين عاماً على تأسيس مشروع العمر، مسرح موسكو الفني، وكانت مسرحية الشقيقات الثلاث، لتشيخوف تعرضُ للاحتفاء بهذا التاريخ. دخل ستانسلافسكي وهو يرتدي ملابس العقيد فيرشينين، بيت آل بروزروف، بيت الشقيقات الثلاث، ليشارك إيرينا احتفالها بعيد اسمها، فإذا بممثل وسيم مهيب طويل، مشدود البنية، متماسك، رشيق بخطوات خفيفة، ليجذب إليه الأنظار، وهو في الخامسة والستين. وقف على خشبة المسرح الذي أسسه ورعاه، ونزف من أجله دم روحه، ليقول إنه دوره الأثير لديه، دور الإنسان الحالم بروسيا المستقبل. والممثل الذي لامس تخوم العبقرية، تخطاها، كان مخرجاً لامعاً مُجدداً، حدد من خلال عروضه جماليات الإخراج في القرن العشرين، ورأى كثير من النقاد والفنانين، أن ستانيسلافسكي المخرج صار من الكلاسيكيين في سيرورة مسرح موسكو الفني والمسارح الأخرى، ومعرفته العميقة بسيكولوجية الممثل، وخبرته المسرحية العملية، أعطته إمكانية الكشف عن مكنون النصّ، الذي يسمح لكل مؤد، بأن يُعلن عن نفسه، وعن فرادته، وبالتالي عن ذاته كمبدع، ما كان يردد، ولم يتعب من ترديده أبداً، ضرورة تجسيد حياة الروح الإنسانية، ولم يخلُ عمل من أعماله الإخراجية من الجمال الحقيقي للعلاقات الإنسانية، وفي السياق نفسه، كان يصرّ على إبراز الوعي العميق للوضع التاريخي أو المعاصر، الذي تحركت في إطاره، وعاشت وعانت وكافحت وأحبت الشخصيات،سواء كانت تراجيدية أو كوميدية. لم يكن ليتجاهل ما ندعوه اليوم بالإرشادات المسرحية، التي يبثها المؤلف في ثنايا مسرحيته، كان يسعى إلى ترجمة كل ملاحظة، من ملاحظات المؤلف، إلى لغة المسرح، تسعفه في ذلك الفانتازيا المجنحة، التي لا حدود لها، متجاوزاً الحواجز كلها في الفضاء المسرحي، وفي الزمن أيضاً، تستوي في ذلك موسكو نهاية القرن السادس عشر، أو قبرص، حيث جرت أحداث تراجيديا عطيل، أو القرية الروسية، أو المدينة، أياً كانت طبيعتها، كل هذا كان قريباً من ستانيسلافسكي المخرج، ولم يكن على دراية بالعوالم الداخلية للممثلين فحسب، وإنما بكل تفصيل من تفاصيل آلية المسرح، ولم يكن يهمل أي جزء من أجزاء العرض، أو يؤجل البت فيه. وفي كتابه (حياتي في الفن)، يتحدث ستانيسلافسكي عن الديكور والملابس والإضاءة والموسيقى والإكسسوار، ويؤكد أنها كلها تخضع لسيطرته. المهارة هي ما كانت تجعل عمله مختلفاً، وعندما كان يعمل على تحقيق الوضع الخارجي، الظرف الخارجي للفعل، وما يتعلق بالجو المسرحي للعرض، كان يميل إلى الفعل الداخلي مُجسداً على خشبة المسرح، أي إنّه كان يسعد إذ يرى حياة أبطاله، وهي تستمر في الاستراحة بين الفصول، وأنها لم تكن لتتوقف أو تنقطع، بمجرد انسحاب الممثلين إلى ما وراء الكواليس. لا يمكن الحديث عن حياة ستانيسلافسكي في مسرح موسكو الفني، وخارجه أحياناً، بعيداً عن فنان وكاتب وناقد له سعة أفق وثقافة صديقه وزميله فلاديمير إيفانوفيتش دانشينكو (1858-1943)، هذا الذي التقاه مرة ولم يغادره أبداً، كان اللقاء، الذي تؤرخ له كثير من الأدبيات المسرحية، في مطعم وسط مدينة موسكو، ليس بعيداً عن الساحة الحمراء، التي ارتبطت بتاريخ الثورة الاشتراكية، على مدى عقود عديدة. إنه مطعم سلافيانسكي بازار، في عام 1897. وقلما يجد القارئ ذكرى أو إشارة أو محاولة لتدوين وقائع عرض من عروض مسرح موسكو للفن، إلا ويخيم ظل هذا الدانشينكو على الجو. علاقة إنسانية، مهنية فريدة من نوعها، لم تفلح الألسنة النمّامة، أو عداوة الكار (الحرفة الواحدة) أو تقاطع الاهتمامات وتشابك شؤون وشجون الحاة اليومية، في زمن المنعطفات، في تمزيق تلك العلاقة. وضع الرجلان، في ذلك اللقاء، أسس المسرح الجديد، بعد أن استعرضا راهن المسرح الروسي، الذي لم يكف عن المحاكاة الهزيلة للريبرتوار الفرنسي والألماني، وتسويق فكرة النجم الواحد، وقد وجدا أن إحياء قيم الثقافة الروسية، والمسرح جزء منها، ضرورة وطنية وتاريخية، ووجدا أيضاً أن جماعية الفن المسرحي، تزيح تلقائياً النجم الفرد، وأن علاقة الفنان بفنه، يجب أن تجلو الالتباس السائد، وتشيد مباشرة إلى ضرورة أن يحب الفنان الفن، لا ذاته فيه، واتفقا أيضاً على التأسيس لما سُمي فيما بعد بأخلاقيات المسرح، أي احترام مواعيد البروفات، والاحترام المتبادل بين الفنانين، والتفاني في العمل، وعدم التعصب الأعمى، لهذا الرأي أو ذاك، أو لهذا الاتجاه أو ذاك، والقراءة السريعة لهذه العناوين، تحيل إلى وعي مبكر للخلل البنيوي، الذي كان يعاني منه المسرح الروسي في أواخر القرن التاسع عشر. كان ثمة تكامل واضح بينهما، ومنذ البداية، ستانيسلافسكي الممثل والمخرج بخبرته العملية، ودانشينكو بخبرته النظرية، ككاتب وإداري ذكي ومحنّك. هكذا وضعا أقدامهما على طريق طويل من التعاون المتبادل (حققا عروضاً مشتركة) أثمر انعطافات إبداعية على مستوى النص والعرض، بل إن مسرحيات أنطون تشيخوف، كانت اختباراً حقيقياً لعلاقتهما، (أعاد دانشينكو قراءة أعمال إبسن، وهاوبتمان فيما بعد على ضوء الخطوات الأولى، التي كانت الواقعية تخطوها، وأقنع زميله وصديقه بخصوصية الكتابة التشيخوفية، وما تنطوي عليه من تجديد وخصوصية تلقيها)، وفي زمن صعود الطبيعية خارج روسيا، ما كانا لينجوا من سطوتها (مسرحية تولستوي الشهيرة سلطان الظلام نموذجاً) إلا أنهما تحررا من هيمنتها، نظرا إليها بموضوعية، ومن مسافة، تتيح نقاء الرؤية. لم يتخلَ ستانيسلافسكي عن التمثيل والإخراج، إلا بعد أن أنهكه المرض، ورغم المرض، ظل يشرف على العروض الدرامية والأوبراليه، مانحاً إياها خبرته الفنية المتراكمة عبر العقود الطويلة، ومشجعاً الفنانين الشباب على الاستمرار والانتقال إلى مراحل متقدمة على درب الفن، وإيمانه بأن يتعلم الشباب، وأن يقتدوا بمن هم أكبر سناً، هو الذي دفعه إلى تأسيس أكثر من استديو، ولم يبخل بماله الخاص، عند الضرورة، دون أن ينتظر عرفاناً بالجميل من أحد. الحرص على الجانب التربوي/ التعليمي، كان نابعاً من قناعته أن المخرج ليس مجرد فنان، وإنما مُربٍ ينقل الفن والأنساق المعرفية والثقافية والقيم الأخلاقية إلى المتلقي وإلى الفرقة التي ينتمي إليها، رسالته كانت ببساطة أن على الممثل أنْ يدرس فنه، طبيعته الإبداعية، وكان يعتقد أنه كلما كان الفنان كبيراً، ازداد اهتمامه بتقنية فنه»، ولعل نزعته التعليمية - التي لم تنعكس على فنه، وظلت خارجه - كانت تنهض على الرغبة في مشاطرة الآخر الخبرة من جهة، وتوظيف الأبحاث والتجارب التي قام بها في العملية التعليمية. منذ أن كان في الرابعة عشرة، وهو يسجل يومياته وملاحظاته، ويجعلها مادة للنقد القاسي، كان قاسياً مع نفسه، حتى في تلك الفترة، والواقع أن النقد الذاتي لازمه طوال مسيرته الإبداعية، بدءاً من الخطوات الأولى، وحتى أواخر أيامه. وقد استفاد ستانيسلاسفكي من فنان روسي مرموق، كان صديقاً لكل من غوغول وبوشكين، والناقد بيلينسكي، يدعى شيبكين. كان هذا الأخير أكثر من مجرد ممثل، يحفظ دوره، ثم يفرغه على خشبة المسرح، لم يكن رأساً فارغاً، كما غيره. ومن الطبيعي أن من كان يصادق هؤلاء الكبار، لابد أن يكون قريباً من مستواهم الراقي، إن لم يكن من المستوى نفسه فعلاً، وتقدير ستانيسلافسكي لهذا الممثل الموهوب والمثقف، جزء من التقدير، للثقافة الروسية الأصيلة واحترامها، إن لم نقل تبجيلها، وقد أفصح الرجل عن هذا التقدير، عندما كان مع فرقته في زيارة إلى ألمانيا، ولمس استخفاف الألمان بالفن والأدب الروسيين، وفي ما يشبه البيان المسرحي، اتفق مع صديقه دانشينكو، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، على ضرورة الانعتاق من المسرح الفرنسي والألماني. كتب في عام 1908 أروع ما في الفن الروسي تلك الدعوة التي أطلقها شبيكين، والتي تركها لنا نحن المعنيين بها، والتي فحواها، خذوا أمثلتكم من الحياة والطبيعة» ولا نحتاج إلى كبير عناء، لكي نكتشف أن المقصود الطبيعة الروسية والحياة الروسية. وثمة فكرة تُضاف إلى هذه الدعوة، أو هذه المقولة، وهي جمالية وثيقة الصلة أيضاً بفن التمثيل. ولنفصّل أكثر، ونقول إن أبحاث ستانيسلافسكي، لم تكن في يوم من الأيام، بعيدة عن حقيقة الحياة، ودراسة قوانينها، وإن نظامه الذي توجه فيما بعد، بأفكاره حول إعداد الممثل، وإعداد الدور، انطلق من هنا، وإن فكرة (المعايشة) معايشة الممثل للشخصية، بالنسبة له ارتبطت بما كان يدعوه الحياة الحية، التي ينبغي أن تملأ أداء أو لعب الممثل، وأن تغدو الأصل أو الأساس لتجسيد الشخصية المسرحية. وما يمايز ستانيسلافسكي المعلم عن غيره، أنه علّم الآخرين وظل هو نفسه يتعلم. لم يجد حرجاً في الاعتراف بالخطأ، بل وفي إظهاره علانية، وهو يرمي من خلال هذا الإظهار أو العلانية، إلى التصويب والتصحيح، وفي يقيني أن سبب تقدمه المضطرد وارتقائه المستمر، يُعزى إلى تلك المكاشفة النبيلة، مع الذات أولاً، ومع الآخر ثانياً. (حياتي في الفن) كان سبب شهرة ستانيسلافسكي، وكان أيضاً الكتاب الذي منحه مجده الأدبي، باعتباره كاتب يوميات ومذكرات، يعرف كيف يسرد عليك ما لديه دون ملل، رغم ولعه المزمن بالتفاصيل. في رحلته مع فرقة مسرح موسكو الفني إلى الولايات المتحدة الأمريكية (1922-1924) وبعد الاستقبال الحار الذي قوبل به هناك، وأعضاء الفرقة، بدأ يفكر جدياً في كتابة مذكراته، بعيداً عن روسيا، وبعد أن تلقى عروضاً مغرية من أكثر من دار نشر أمريكية. الواقع أن ثمة رغبة قديمة لديه في نشر كتاب ذي طابع يحمل سمات السيرة الذاتية، أو بعبارة أخرى ما شكّل حافزاً إضافياً لها، بلوغه الستين، وبلوغ مسرحه ربع قرن. بدأ يكتب وهو في معمعة العمل، والتنقل من مكان إلى آخر، ولم يكن يفرط بالوقت المتيسر له، لأنه كان في سباق مع الزمن، بل إن سكرتيرته تقول إنها كانت تأتي إليه ومعها الآلة الكاتبة، وكان هو يملي عليها: لم يكن يعرف التعب، ولم يكن يحس بمرور الوقت، كان يسأل كم الساعة؟ فأقول له لقد تجاوزت الثانية ليلاً» ظهر الكتاب باللغة الإنكليزية للمرة الأولى عام 1924، وعندما عاد إلى موسكو في خريف 1924 شرع بالتحضير لطباعة النسخة الروسية، لكنها لم تكن مطابقة تماماً لمثيلتها الإنكليزية، فقد أعاد النظر فيها، لأنها كما قال: ساذجة جداً»، وأضاف (لقد أنجزت طبعة جديدة بكل ما في الكلمة من معنى، وهي أفضل وأنجح)، هكذا ظهرت الطبعة الروسية الجديدة في صيف 1926. يرى كثير من النقاد في الكتاب ، أنه عمل كلاسيكي، من عيون الأدب المسرحي العالمي، وأنه لا نظير له، بين كتب السيرة الذاتية المسرحية، ولاسيما من حيث الغنى الفكري والوضوح الفني، وإذا كان يفيض في الحديث عن الماضي (الذكريات) إلا أنه لم يكن يرمي إلى مجرد الذكريات، واستعادة الزمن، كان يشير إلى الحاضر والمستقبل، ويتجلى ذلك من خلال انتقائه تلك الوقائع، التي تميط اللثام عن أسس موضوعه الإبداعي، وإذ يتوقف عند دور أدّاه، أو عرض أخرجه، فإنه يفعل ذلك باسم الكشف عن تلك المبادئ، مبادئ الواقعية المسرحية، التي يؤكد عليها، كممثل ومخرج ومفكر، والتي أعطاها حياته كلها. ستانيسلافسكي لم يسكت يوماً عن هزائمه، ولم ينتش بانتصاراته، لأنه عدَّ أن كل خطيئة درس، وأن كل انتصار مجرد خطوة على طريق الكمال، ومثل هذا الموقف، أعطى الكتاب (حياتي في الفن) تلك القيمة العلمية المشهود لها، الموضوعية، ولاشيء سواها، هي التي أسست للثقة به، وبنظامه أولاً ومن ثم بمنهجه فيما بعد، الذي تحول إلى إرث عالمي». قد لاتكون الثورة البلشفية الاشتراكية فاجأت ستانيسلافسكي، لأنه كان شاهداً على ارهاصاتها، والناظر الفاحص للعروض التي كان يقدمها - قبل الثورة - لا تخطئ عينه القضايا الاجتماعية، التي كانت تقارب المباشرة في بعض الأحيان، (غوركي ومسرحية الحضيض)، ولم تكن مسرحيات تشيخوف رغم شعريتها - تقل حدة عن غيرها - فالواقعية كانت تدق الأبواب معلنة أنَّ نهاية النفق وشيكة، بيد أن هذا ما كان ليعني أن كل شيء على مايرام، في السنوات الأولى على الأقل. فالأسئلة الصعبة إبداعياً، بل وحتى شخصياً (الانتماء البورجوازي، والنشأة البورجوازية) لم يكن حلها سهلاً، وراح بعض المثقفين والفنانين يصطادون في الماء العكر، فثمة من زعم أن ما يعرضه مسرح موسكو الفني، ليس أكثر من إرث عفا عليه الزمن. والمعركة على مسرح موسكو الفني، لم تكن فكرية وسياسية فحسب، وإنما جمالية أيضاً، فالثورة ينبغي أن تتبنى الجديد في الفن المسرحي، وأن تقوّض الفضاء المسرحي التقليدي، وأن تذهب إلى الجماهير في الفضاءات المفتوحة، خارج العلبة الإيطالية، وإذا أضفنا إلى ذلك أهوال الحرب الأهلية، أدركنا حجم الهموم التي حاصرت الفنان، وحده الوعي العميق والصبر، وعدم الانجرار وراء المعارك الهامشية، أنقذ ستانيسلافسكي، ولا ينسى وقفة المثقفين بعيدي النظر، واسعي الأفق إلى جانبه، الذين رفضوا إلغاء التراث الثقافي المتنور، إكراماً للدوغمائيين. ففي العشرينيات من القرن الماضي، حاول بعض علماء الاجتماع السوقيين التقليل من شأن تشيخوف، والزعم بأن إبداعه أصبح قديماً، وفاقداً لأي معنى في زمن الثورة. وقد انبرى ستانيسلافسكي للدفاع عنه، وطرح فكرة تقول إن الكاتب العظيم مطرب الآمال المضيئة واليأس»، وأضاف، إنه ليس بالبرجوازي المتخلف، وإنما على العكس، إنه الناظر إلى الأمام، إلى الأفق البعيد، وإنه الحالم المثالي، ويردف قائلاً كما أنه لايجوز أن نلغي بوشيكن أو غوغول أو غريبييدوف، أو شيبكين، كذلك لا يجوز إلغاء تشيخوف، إنهم الأعمدة التي ينهض عليها هيكل الفن والأدب الروسيين»، وفي (حياتي في الفن) يعيد طرح مشكلة عمل الفنان التشكيلي في المسرح، مطالباً بأن يعمل هذا الأخير، مع المسرح، كالمخرج والممثل، وأن يدخل مجال تحليل النص، تحت لواء فهم الحياة اللاوعية، وفي الوقت نفسه، يريد من فنان الديكور، ألا يكون من ذلك النوع الذي يستغل المسرح، ليعرض لوحاته، ويطلق على مثل هذا الفنان، لقب المستأجر الذي يسعى ليأخذ مكان المالك. قاد بحث ستانيسلافسكي عن الحلول التشكيلية للعرض المسرحي، إلى الاستعانة بالعمارة والنحت، ليكون كلاهما جزءاً من النسيج الفني، يتبادل التأثير مع أجزاء العرض الأخرى، ولايمكن اعتبار مثل هذه المحاولة، إلا تعزيزاً للجانب البصري، الذي لم يكن في معظم عروض مسرح موسكو الفني، إلا تابعاً، وليس رديفاً للجانب السمعي (الكلمة)، ولقد نجح في أكثر المحاولات. ويبدو أن التركيز على الممثل شغله عن عناصر العرض، فتوجه نحو الديكور والأزياء والإضاءة التي لم يكن يعطيها ما تستحقه من اهتمام، إلا في العروض التي تتحول فيه إلى بلاغة أو مجاز تعجز التقنيات الأخرى عن انجازه. أنهى ستانيسلافسكي سيرته الذاتية (حياتي في الفن) بكلمات مفعمة بالأمل، وهي أنّه سيخلص فيما بعد إلى صياغة، نظامه في الإبداع المسرحي نهائياً، مضيفاً أن النظام سينقسم إلى قسمين رئيسين: 1- عمل الممثل من الداخل والخارج على نفسه، 2- عمل الداخل والخارج على الدور، وعلى هذا الأساس، فإن (حياتي في الفن) وفقاً لخطته، بدا وكأنه مقدمة أو مدخل إلى النظام نفسه، إلا أن مثل تلك الخطة الطموحة الهائلة، لم تنجز كاملة إلا عام 1938 عام رحيله. في هذا العام صدر الكتاب الأول فقط من مشروع النظام (إعداد الممثل في العملية الإبداعية للمعايشة)، أطلق ستانيسلاسفكي على هذا الكتاب (دفتر التلميذ) والدفتر يحرره التلميذ، تلميذ المدرسة المسرحية، الذي كان يدون دروس تورتسوف، وقد أملى كونستانتين سيرغيفتش ستانيسلافسكي أفكاره وتوجيهاته العملية، وكل ما يتعلق بإعداد الممثل، على لسان تورتسوف. وهكذا، وعلى شكل الدفتر أو اليوميات، كتب الكتاب الثاني، غير المنتهي، تدريب الممثل في التجسيد الإبداعي، موضوع إعداد الممثل وعمله على الدور، ظل مجرد مواد للكتاب المفترض، وفي هذه المرة يناقش ستانيسلافسكي مسألة عملية (سيرورة) خلق الشخصية المسرحية تطبيقاً على (ذو العقل يشقى) للكاتب الروسي غريباييدوف، و(عطيل) شكسبير، و(المفتش) لغوغول، وهذه الكتب والمواد، طُبعت في الأجزاء الثاني، والثالث والرابع، من الأعمال الكاملة لستانيسلافسكي. ترك ستانيسلافسكي إضافة إلى ما تقدم، عديداً من المقالات والخطب، والملاحظات والهوامش والذكريات، وقد توزعت هذه المواد على الجزأين الخامس والسادس، من الأعمال الكاملة، وهناك الرسائل التي كتبها إلى أصدقائه، وتنطوي على قيمة أدبية وفنية، وربما علينا أن نضيف أيضاً ملاحظاته الإخراجية، التي كتبها أثناء إخراجه العروض المسرحية، وتنضوي تحت لواء الإرث الأدبي/ الإبداعي. (حياتي في الفن)، لا يفقد أهميته مع مرور الزمن، ويظل محافظاً على حكمته التاريخية، وباعثاً على الاهتمام، لكل من يشغله الفن، مخرجاً كان أم ممثلاً، أم باحثاً. والكتاب، خرج إلى فضاء العالمية، منذ أن تلقفته أيدي الفنانين في كل من أوروبا وأمريكا، في أمريكا شق ستانيسلافسكي طريقه بسرعة، لم يكن يتوقعها أحد، وسار معه بشكل يكاد أن يكون متوازياً أنطون بافلوفيتش تشيخوف، ولم يكن غريباً أن يمضي هذا التوازي بإيقاع سريع، لأن ما ربط بين تشيخوف ومسرح موسكو الفني، تعمّق من خلال الممارسة المسرحية. شاهد الأمريكيون تشيخوف في مسرح موسكو، وشاهدوا ستانيسلافسكي مخرجاً وممثلاً عارفاً بالكاتب الموهوب، وذهب الاهتمام بالمسرح الروسي إلى أقصى مداه، حتى إنَّ ناقداً مسرحياً أمريكياً هو جورج زيلبورغ تحدث عن الغزو الروسي، وثمة من أشار إلى الكمال في التمثيل، وعن الاتحاد الكامل بين التمثيل والإخراج والنص، (ستارك يونغ)، كانت بداية انتشار ستانيسلافسكي من خلال عضوي فرقة مسرح موسكو الفني، بولسلافسكي، وماريا أوسبينسكايا، اللذين أسسا فرقة المسرح الأمريكي التجريبي، وراحا يعلّمان نظام ستانيسلافسكي للتمثيل، وانتقل الاهتمام به، إلى اعتناق نظامه، من قبل كل من الطالبين لي ستراسبورغ، وستيلاّ آدلر، بيد أن الفرقة التي اشتغلت بجدية على نظام الفنان الروسي الكبير، كانت الجماعة أو المجموعة، ثم انضم كل من إيليا كازان إلى استديو الممثلين، الذي لم يعد يكتفِ بالنظام كما هو، وإنما النظام مُطوّراً. وهكذا، نرى أن كل شيء بدأ من (حياتي في الفن)، كان المقدمة، والبداية، والاستهلال لواقعية مضت في تطورها صاعدة، مؤسّسة لفن جديد يغرف من الداخل، من الروح الإنسانية، ليلتقي الخارج (الجسد). ولعل أبلغ وصف للتأثير المُزلزل في المسرح الأمريكي الذي أحدثه ستانيسلافسكي ما قاله ج. ل. ستيان صاحب (الدراما بين النظرية والتطبيق) ما من كاتب مسرحي بارز في المسرح الأمريكي الحديث، إلا وتأثر في وقت ما بتشيخوف، أو بستانيسلافسكي أو بنظامه، وأحياناً بالثلاثة معاً». في (حياتي في الفن) التواضع الجم الصادق، وسعة الأفق، وانفتاح العقل والحكمة والبساطة غير المُخلة والجسارة في الاعتراف بالخطأ، والبعد عن التهويل أو المبالغة في تقدير الذات، أو تمجيدها، تُسجّل لستانيسلافسكي مقومات القدرة على الانتقال إلى الأمام دائماً وفق سيرورة إبداعية وأخلاقية. د. نديم معلا محمد

حياتي فـي الفن.pdf

تفاصيل كتاب حياتي فـي الفن.pdf

للمؤلف: كونستانتين ستانيسلافسكي
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 5
مرات الارسال: 43

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T
عرض جميع الكتب للمؤلف: كونستانتين ستانيسلافسكي

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: