أصـل الغـرام .. نظـرة.pdf
الرجـل الخيـزران عيني لم تر قط كذاباً مثلك يا عبد اللـه فراقيـع. ولم أسمع بغيرك يملك ما تملك من قدرة على لفت الانتباه إليه.. ولأن أكاذيبك طراز خاص، فإن أحداً لا يستطيع أن يصطنع أمثالها.. بلى، هي صنف خاص من الابتكارات الجاذبة لاهتمام السامعين أيَّاً كانوا .. كما حين قصصت، وبمزيد من الجِديَّـة، أنك دُعيت ذات مرة إلى بلد من البلدان، بعيد كأنه في أقصى الأرض، طافٍ وحده على بحر خضمٍّ متلاطمٍ موجُـهُ صيفاً شتاءً ربيعاً خريفاً، وهناك كُسيْتَ وطُيِّـبْتَ ثم أُدخلْتَ على السلطان كرسول من رسل الأباطرة.. رَجَاكَ السلطانُ أن تقدح مهاراتك وعلومك فتفعل شيئاً نحو صبايا أميرات ثلاث من بناتـه، عجز حكماء البلد والبلدان القريبة، عن شفائهن من ضُرٍّ مسَّهن وآذاهن إلى حـدٍّ كَفَفْنَ معه عن المأكل والمشرب والملبَس، وعن أي ابتهاج مما يليق ببنـات السلاطين. فكنَّ لا يلبسْن إلا العُري - وغالباً العُريَ الفاضحَ والمُذلَّ - قلتَ: سمعاً وطاعةً يا سلطان الزمان .. فحين دخلت خبـاء الحريم وأسـفرْنَ لك، زعمت بأن جنيَّـاً واحداً آخى بين الأخوات الثلاث وتزوجهن معاً والعيـاذ بالله - هكذا رويتَ لنا يا فراقيع - وأنك بما تعلَّمتَ من سَـحَرَةِ الهنـد وحكماء نيبال ومن طبابة البادية العربية.. فكَكْتَ رباطاتٍ كانت مُمْسكة بهن بحجابات و مواثيق من عالم الأراضين السُفلية، عصيَّةٍ على الأفهام وعلى الفَكاك منها، إلا من قبل عارفٍ مثلك، فأخرجْتَ ما أخرجْتَ من الأجساد الملكية .. فكان أن جازاك السلطان ثراءً واسعاً أصبته، وزعمت - فوق ذلك - أنه عرض أن يزوجك مَن تختار مِن بناته، ولكنك أبيت مكتفياً بما نلت من عطاياه - هكذا قلتَ، يا عبد الله - .. وحين سـألناك عن ذلك الثـراء الذي تدَّعي ؛ وأنت لم تُعرف في الأنحاء كلها إلا بما عُهِـد فيك من فاقة ومن فضولية أشعبية .. أجبتَ بأنك أنفقته في وجوه للبرِّ في آفاق ابتدعتهـا . قلتَ هذا . وقلت بأن الله أشقاك بعد ذلك فَطَفِقْتَ تجري جري الكلاب نحو كفاف يومك فحسب ؛ وإذا حدث أن فاض لديك ما كان عليك أن تدَّخره ليومك التالي، كنت تستعجل به إلى منعرجات المقامرة ؛ نحو رزق تُخمِّن أنك موعود به؛ فلا تحصد إلا مُـرَّ الخيبـة .. ثم إنك بفعل القوة المسيِّرة للناس، انعطفْتَ حتى انتهيت أفَّاقـاً تعتصره طاحونة المعاصي، وسكِّيراً يتقرَّب بالشراب إلى حدود النسيان . كانت براعة سردك للأكاذيب، تجعل من يصل إليه صوتك، موصولَ النظر إليك . وحين تكون في الحانة، ربما استبدَّ بأحدهم الإعجاب فقَـدِمَ إليك وجالَسَكَ وشاطرَكَ شـرابه، أو ظل في مقعده وأهدى إليك زجاجة خمـر، أو هتف للساقي بأن حسـابك - ما شربت وما أكلت - عليـه هو، فتكون قد ظفرت بمجانية الليلة وضمنت الليلة القادمة، وتكون - أيضاً - قد وجدت ما تقامر به . أما حين تسـتبد بك الخمرة، فتكون مغنِّيَ السهرة كلها بصوت تلك الناعورة الرومانية على نهر شحي . تستدعي للسامعين شجونهم بمواويل زُهيرية شرقاوية حزينـة، مضفورة بأسىً يفطر القلوب، ويُغري بسعادة خفيَّة، رغم ما فيه من الضنى ومن اللوعة ؛ فكأنك الضنى نفسه، وكأن حياتك هي اللوعة كلها .. لكنك الليلة - يا عبد الله فراقيع - تجاوزت ادعاءاتك المعتادة، فقد راهنت على أنك قادر أن تُردي جَمَلاً بحالِـهِ بضربة سكين واحدة .. حبذا لو كنت قُلْتَ دجاجةً أو حَمَلاً ابن يوم. أي غرور هـذا وأيَّـة مغامرة، وأنت تعرف جيداً أن مُراهِنَكَ لن يسامحك بقرش واحد إذا فشلت . لقد جَبُنْتَ عن الاقتراب من الجمل وهو في غباء وقفته، يجترُّ ما يجترَّ أويمضغ ما يمضغ، ويُعَيِّنُ في وجوه وأجساد المُتحلِّقين في الساحة . كان الجميع ينتظر ساعة حسم الرهان، والكل مستعد لمعانقتك إذا أنجزت ما راهنت عليه ؛ والكل كان يتبادل الحديث عنك .. فمن قائل إنك مُآخٍ الجنَّ وتقدر أن تفتك بسَبع وحدك، وقائل بأنك مجرد متخرِّصٍ أجوف وستطلق ساقيك للريح بمجرد أن تلتقي عيناك بعينيْ الجمل، وقائل بأنـك صنديد من الصناديد المعتبرين وأن رهانك مجرد حيلة تحتال بها ليهاب سكينَكَ مختـارُ الحي ورئيسُ المخفر، فكم أوديا بك للمبيت مرات في نظارة قلُّـق الحي ومرات في سجن المدينة .. بلى يا عبد الله، لقد جَبُنْتَ عن مجـرَّد الاقتراب من قامـة الجمل وهو يحرك أحد خِفَّيه بازدراء بـادٍ .. وحين عَثَـرَ عاجَلْتَ إلى جرابك . سَـلَلْتَ سكين القندرجية من حافة الحذاء وأولجتهـا في العنق المشرئب كمئذنـة .. لقد خانتك معرفةُ أن الإبل لا تُشكُّ بالسكاكين في الأعناق، بل تذبح ذبحـاً بأيدي القصَّابين المهَرَة والأشدَّاء .. يذبحونهـا، نعم بسكين صغيرة، وإنما من الوريد إلى الوريد وليس بالشكِّ الخائف بسكين مهما كان حدُّها ماضياً؛ فتشخر، فتخـور، فترتجف، ثم تبـدأ بالاستكانة، وتهمد؛ لكأنها لم تكن ما كانت منذ لحظات .. وحين كفَّ الطعين عن الاجترار وفَـزَّ، صارت له عينان من عقيق جحيمي يغرزهما بعينيك . لم تكن النظرة استغراباً ولا عتاباً صعباً ؛ كانت حقداً سـيُتبع بانتقام لا يقدر على تخمينه أحـد: فربما كان ركلة خُفٍّ تعلو بك إلى جـدار يهشمك أو تهبط ثَمَّ بك إلى جَلْمَدِ الساحة، وربما كان عضَّـة تستخلص أنفك من وجهك أو نهشة في عضلات فخذك، وربما كان بُـرُوْكاً فوقك تُعتَصَرُ به اعتصار ليمونة فاسدة . كذلك، فإنك خفت، يا عبد الله، حين لَوْلَـحَ الجمل بعنق طويل بينما سكينك عالقة به قريباً من المَبْلَـع .. وجأر جأرةً رددت الحيطان صداها . جريَْتَ. لم تصرخ .. كنت تعوي كذئب باغتـه قمر صيفي لجـوج من بين الغيوم .. أولاً جَـرَيْتَ باتجـاه الجموع التي تجمهرت تتشفَّى بالبعير الجاري دمه على عاتقيه نُقَـطَ لَبَنٍ رائبٍ أحمـر . ثم اختلطْتَ بالجموع .. وبعْدُ تَسَرَّبتَ من بين الأكتاف وصيحات التكبير .. تسرَّبت، ولم تُكبّـِر مع المكبِّرين .كنت منشغلاً بالفرار الجبان، فَـرَاراً يُنسيك خيبتك، و يوهِّمك أنك مُلاقٍ مَلاذاً . احترت في اختيار الاتجـاه . مكثت تقلِّب في جيوبك عن نقود؛ وجدت نقود الرهان فحسب، تساءلت أَيُّ حانٍ يستر عُري عجزك أمام جموع الحي في باحة الذبْـح .. وإذ وجدت أن النقود لا تكفي لمائدة في الحانة، اكتفيت بزجاجة خمـر اشتريتها ودسستها، كالفِعْلـة الحرام، بين أسمالك ؛ وكذبت على بائع المُكسَّرات بأنك ذاهب لاستلام أجـرٍ لك، فَرَضيَ أن يَـزِنَ لك بثمن مؤجَّـل شـيئاً من الحُمُّص المسلوق والمُحَمَّص، يكون عوناً لك على حُرقة زَلاعيمِك عندما تمصُّ مَصَّةً من فم الزجاجة . اغتبطت، ويممَّتَ شـطر البادية لا تلوي إلا على الزجاجة في جيب سترتك فـوق موضع قلبك مباشرة . وشددت عليها بساعدك . ما كدت تبتعـد قليــلاً عن البلـدة كي تتخيَّـر مكانـاً يـروق لـك في جبـل سـيف الدولة فتجعلـه مجلس شرابك وتَفَكُّرِكَ بما حدث، ومن ثم اصطناع أكذوبة لتبريره .. أو لنسيانه .. حتى أبصرت على بُعْـدٍ قريب مضاربَ خيام .. توجَّسْتَ أن تقترب منها، لأن البدو ينفرون من الشـراب وممن يتعاطاه، أو يقتلونه ؛ فهم موقنون بأن مَنْ رأى مُنكراً عليه ـ كي لا يأثم ـ أن يغيِّره بيـده . وطريقة التغييـر أمرٌ يقرره مَنْ رأى المُنكـر .. إلا أنك آنستَ حين وجدت المضاربَ مضاربَ قربـاط .. فدلفت مُستحضراً ابتسامتك المُزورة، ملوِّحاً بالزجاجـة . هشَّ لك فتى ودعـاك، فجلستما تتسايران وتتساقيان . وإذ أقبلَتْ من وراء خِبَاءٍ شفيف وممزق إلا أنه نظيف .. فتاةٌ بعمر الزنبق والريحـان وبطول رمح عربي، كأنها قُـدّت من سبيكة ذهب وورد، وقال لك مُضَيِّفُك إن اسمها نسـيمة .. .. نَسَـمَ في قلب قلبك بغتةً نسيمُ البراري البعيدة . أحسست أن قلبك قد ضاع منك حقاً . لا، بل إنك نَفْسَك - قد ضُعتَ حتى أبـد الآبدين . وإذ دارت برأسك نسيمة والخمرة ونشوة تباهيك الكاذب المعتاد بالعنفوان .. انعطف بك الغِيُّ إلى التقوى فادَّعيتَ الفقـه .. علَّلْـتَ لهما أن شُرْبَ الخمر لا عقوبة لـه، والذي ورد هو التحريمُ فحسب، دون حـدٍّ من الحدود على نحو ما جاء بخصوص محرمات أخرى من رديء الأفعال .. فصرت مدار الاهتمام وموضع إعجاب الفتاة وأخيها، مما أرجع إليك الثقة بالنفس .. فانعطفتَ تتحدث عن الجمل وقد صيَّرته ناقة . قصصت عليهما أنك آتٍ من ذبْحِكَ ناقـةً عجز جميع القصابين عن الإمسـاك بها فأنَّى لهم إذن أن يذبحوها، وأنها فَـزَّتْ تتهدَّدُ كل المتحلِّقين حول الساحة لأن غُـرَّاً من الأغرار حَسِبَ أنه قادر عليها، فَلَكَزَهَا بسكين في جانب من عنقها الطويل، الطويل بمقدار طول بدنها كله، وما هذا بمذبح صنف البعـران .. فحين آلمها جرح الغريـر .. انزوتْ بادئ ذي بدء، وتحفَّزت باتجـاه الفتى الطاعن بنظرة فيها من الحنوِّ والحقد والثورة، الشيء الكثير مما لا يمكن فهم مؤدّاه ولا مآلـه؛ ثم قاربَتِْ الهيـاج القاتل ففـزَّت إليه .. وقلت بأن صنف البعران إذا هاجت أو أوذيت، فليس لـه من رادٍّ إلا القتـلُ الرحيم .. ثم هتفت: قلتُ للجموع ابتعـدوا .. أنا لهـا . واندفعتُ كالباشـق تماماً، وبيدي سـيخ معاش أحتفظ به تحت كُمِّي اليسار تحسُّباً للغدَّارين، ولكنه ليس معي الآن ؛ فأنا آتٍ لكم يا النشامى، وأنا- أعـوذ بالله من قَوْلَـةِ أنا - لي من الأعادي ما فتح وما رزق .. ما علينـا …. أعود إلى الناقة الجريح .. فقـد نزلْتُ عليها بضربة واحدة من سـيخ المعاش - اللهم عافِنَـا - فانفصلت الرقبة الطويلة عن الجسد الكبير والصلب .. كأنها قصبة كسَـرَتْهَا ريحٌ عاتيةٌ .. تهاوت الأرجل منها أولاً فكأنها يا جماعة الخيـر - وقد أسلست كلها لضربة سكين المعاش - قد آنست لي، فقدَّمت لي الجسد كله أسلخه وأُقطِّعَهُ على هواي .. وتعلمان يا فاتنة البدو والَحَضَـر، وأنتَ يا صقر الملمَّات .. تعلمان أن استسلام شـاة أو ظبيـة أو حتى ناقة، أشـبه تماماً باستسلام امـرأة . والمرأة لا تستسلم إلا للجريئين القادرين على الإمساك بها وَلَيِّهَـا، مثلما سقطتُ بسيخ المعاش على الناقة .. ولا يؤذِّي المرأة أو يشطرها إلا غرير، فيخسرها ويخسر نفسه . كانت السماء ترسل بريـق نجومها وقمرها إلى الخيمة التي ظلَّت مُضـوَّأةً بضوء يطوف سبائكَ فضَّـة غير معهودة ما خطرت على قلبك يا عبد الله، ولا على قلبيْ الفتى والفتـاة، ولا على قلوب أبناء عشيرتهما كلهم. تهلَّل وجه الفتى القرباطي . جالت عيناه - السوداوان كثقبين لِبِئْـرَيْنِ تبقَّيا بعد النَّـزْح في صحراء منسـيَّة - جالتا في المكان . ثم امتدتا خارجَهُ، فالتقتـا بالأفق نفسه .. صار وجهه المتطاول على نحو محبَّب كوجه حصان، طَبَقَـاً من الأرجوان بفعل ما يسمع منك يا عبد الله، وبفعل خمرتك القويـة قوَّة سبائك من النحاس الحامي تندلق في الأفواه الظمآى .. وما زاد عن أن قال: يسلم فمك يا ابن الأجاويد، فالحقُّ ما قلت يا الأَخُو . أما نسيمة فأبدت كما لو أنها غير معنيَّة بما قلت يا عبد الله، أو قُل مستاءة بعض الشيء . بل الشيء كلِّـه . المؤكَّـد، بل الواضح يا فراقيع أن تشابيهك تلك، قصدت بها نسيمة . ونسيمة أبعد ما تكون عن الاستسلام، فلا سيفٌ قادر على مسِّهَا، ولا سيخٌ آدميٌّ قادر على شطرها .. هي كتلة واحدة قُـدَّت من سبيكة وردٍ وصوَّانٍ وذهبٍ معاً . إن نسيمة ريم تكسَّرت سـيقانه مـن أهوال المطاردات، وما تزال عصيَّة وبعيدة . وقد آب مندحراً كل من ارتـاد خيمتها وسبح في ملكوت صوتها النـَدَّابِ، الأحَنِّ، الماطرِ شوقاً ودَلَعَاً وغنجاً وصبابةً ؛ أو اندمج جَسُوْرَاً في مَيْسِ رقصها المجنون كغصنٍ مَالَ، تـأوَّهَ، تَفَطَّرَ، طَأطأ، وما انكسر ... الكل يا عبد الله، جُـنَّ بها ثم آبَ خفيضاً، كقلم رصاصٍ حادٍّ رأسُـهُ، لكنـه في المِبْـراة . إن نسـيمة مبراةٌ يا عبد الله .. بلى .. وإن نسيمة كربـاج يكوي الرجال . جهنم هي ؛ إنما من زمهرير يقدِّد العشاق ويلويهم لَيَّ الاندحار المـُذِلِّ . * * * كانت لديك نوايا وخُبْـثُ قيعـان مجتمعات المدن ، فتكاد تمد كفاً إلى فخذ نسيمة فيما أخوها يقلب إلى فمه الفظ ما تخلَّف في الزجاجة .. وكادت الخِسَّـة أن تنضح منك لولا أن الليل طـال ، بل كاد أن ينتهي . صار لزاماً أن تغادر يا عبد الله .. فها قد جَهْجَـهَ ضوء الصباح ، وأخذ الليل معه ما سَتَرَ من الخبايا ، والأسرار ، والعواطف الصادقة والكاذبة ، والتباهيات المجوَّفـة .. وقالت نسيمة: قد نَعِسْت . فقمت ثوراً ثقيلاً ، بعيراً أَسَـنَّ هَـدَّهُ الجرب وأضناه اللهاث .. وهـا أنت الآن في المقهى وحدك ، تغرز عينيك الواهيتين في النسوان المارَّات ، وتتذكَّر نسيمة . وتكذب بأن نسيمة قد أُغرمت بك وأن أخاهـا صار خاتماً في أصغر أصابعك .. تكذب فتحسَّ خيباتك كلها . وتبصق على نفسك .. لكنك لم ترعوِ، بل جعلت تحمـد الخلاَّق العظيم أنك لاقيْتَ نسيمة القرباطية ، و تؤمَّلُ الزواج بها .. وحين سَعَلْتَ سعالك المعهود الشديد، وبصقت ، لعنتَ الزمان لأن آمالك تلبـَّدت بتجهُّم مُنتقى من القنوط . فإن شكَّاً كبيراً في أن ترضى بك النسيمة بعلاً أوْحَدَ ، أحاط بأحلامك .. أحْسَسْتَ كأنَّ قوس قُزحٍ حزين آذَن بالرحيل إلى غيومه الخاصة الملوَّنَـة.. فجعلت لا تحلم بأكثر من مساء آخر تلاقيك بنداوته نسـيمة ، وترقص لك أو ترقص أنت لها بكلِّ هواك ، وبكل ِّبرد ليالي وحدتك وانكساراتك وتهتهـات سُكْرك ، وبكل مواويلك .. ما ألَّفْتَ وما حفظت . وستبني لك نسيمة بيتاً في قلب صدرها الثري .. .. لكنَّك لم تعلم بأنَّ القرباط يبنون بيوتهم في أحلام لهم ، لا يعرفها أحد سواهم . يبنونها لا ليسعدوك ولا ليسعدوا غيرك..بل ليُسعدوا أنفسهم فحسب ، وبينما يأكلهم اليومُ نفسُـه تراهم يأكلون الغد.. ثم إنَّهم يرقصون بقلوبهم القوية كالصوَّان، ويعزفون البُزُقَ لِتَرِقَّ قلوب الصـوَّان .. تقول يا عبد الله، إنَّهم يحتاجون بصبوصـة فرح ؟ أيَّة بصبوصة وهم الذين يَزْرِقـون الفرح زَرْقـاً في الوجوه الكابيـة كي تبتسم، وفي الأفئدة النازفة هوىً كي يتذكَّر حاملوها زوجاتهم أو حبيباتهم أو أمهاتهم ، فيعودوا إليهنَّ.. بلى، فتبصَّر يا عبد الله. تبصَّر لأن الشبق سيأكلك ولن تظفر بنسيمة النسائم. تبصَّـر فيما يعتور ذاتك، وفي كآبة ما أنت مُقبلٌ عليه.. فأن تتزوجها وأن تبني بها، فتَلِـدَ لك الصبيان ليصبحوا عزوةً وسـوراً وسـنداً، هو الحلم الكامل. لا بأس أن تحلم. الحلم ليس حراماً إلا عند أبناء الليل الأسـود.. أما الحلم نسيمة.. فهي في كل الخواطر وعند كل منـام.. إلا أنها شرنقة من حرير كتيم لا يُوسِّع فِراشه سوى لمن يريد هو. لك أن تعرف هذا يا عبد الله فَتَكُفّ .. لكنك ما كففت . فأمس وأنت تعود من الجبل اخترعت لنفسك قلباً جديداً. صيَّرتَـهُ نشوةَ المباغتة واللهفة الطرية نحو نسيمة، وأرسلته إلى الفلاة يجلب لك الطرائـد. ظننتـه وَعْـلاً ثوراً.. لا.. إن قلبك فاحش وأخـرق أيضاً، وهو قبل كل ذلك نَمْلَـةٌ.. ومن ثَمَّ، فليس لك بعدُ إلا أن تمدَّ لسانك كالسلوقي، وتعـدو.. هذا ما فعلت يا عبد الله. عدوت إلى باب قنِّسرين تتنسم هواء الانتصارات التليدة البائدة.. كان السُكْر قد خلخل عظامك كلها، ولأن نسيمة لم تُنْجِـدْك بعذوبة خيال يحتويك.. فقد حلمتَ بها.... وفي الطريق من التلَّـة السودا انكفأت إلى المقاهي السود في بحسيتا... آخذاً بنواصي رجولتك المندحرة، كما يوم أخذت امرأةٌ حضرية باهرة بناصيتك وأجلستْكَ قرب النار. غدوت نفسَكَ النـارَ يا عبد الله مؤمِّلاً أن تُلايِلَكَ ليلتَـكَ تلك أو في ليلـة قادمـة، فرقصْتَ لها. وكان هنالك رِقٌّ وكمانٌ حزينان، حزينان حتى النهاية.. لكنك كنت تضحك.فلم تضمُّكَ المرأة. اشـمأزَّتْ منك.. عند ذلك حَزِنْت. وحين جالت عيناك وسط دمعهما، فَغَرْتَ فاكَ كجحش محشور في هاجرة صيفية بأحماله الثقيلة وهَرَشْت صـدرك... لأنك ظننت المرأة قرباطية سلسة، فيما هي قعرٌ من الدوَّارات والإسفنج الرملي الأزغب.. بل هي قـاع بعيـد تسكنه العفاريت. وكعادة الشَـوَايا، عدت مطوياً كالألف المقصورة بدون نقاط أو استقامة، تجرِّرُ عِنِّتَـك براريَ من الاحتراق.. ولا تملك أكثر من التذكّر.. فها أنت اليوم أعزل، خائبٌ كزهرة صبار في شتاء جبـل. بل ها أنت غروب ذاهب وحـده إلى بحر بعيد يُغالب الحُمرة، لكن الاصفرار يحتويه.. وحين يهجم الليل من دورق بنفسج كابٍ على أعناق البيوت والشراشف الملونة، وتنتشر المساحيق على خدود البنات القرباطيات، وبنات الأرياف، وبنات الشـوايا، وبنات المدن المُتَـذَكَّرةِ والمـدنِ المنسـيَّة.. وتنزاح أردية وقماطات عن الأجساد الدافئة والدافقة بعطاءات غير محددة وغير محدودة.. تكون - يا عبد الله - على أرصفة اللوعة والتَّـوْق تنفـخ في راحتيك الباردتين ليسري فيهما الدم.. ووحدك تشتاق وتحلم برفَّـة عين من نسيمة، أو بمسٍّ حييٍّ من أصبعك لخصرها، بل تتوهَّم أن الأماني غدت ملـك يمينك، وأن البَّريَّـة لم تعد موحشة، ولا ملاذاً للضباع والفارين من السلطات الحكومية ـ العادلة أو الجائرة ـ.. عند ذلك لن يعود القمر في سماء عشقك رغيفاً طازجاً كما في العديد من أماسي جوعك السرمدي. بل يستحيل كابوساً يقلي كيانك كله.. يوقفك عند المشارف الممضَّة لخيام القربـاط.. فترى بين فُرجـات الغيوم الداهمة والأفق الكالح، سحناتٍ هلاميةً تندلـق عليك، تتَداخلُ فيكَ خَليَّـةً خَليَّـةً.. عندها تدرك القهر كله في آونة واحدة، ولا يكون لك إلا أن تهرب نحو الحانة الخاوية من الحنـوِّ، والضنينـة بالإرواء.. أو إلى مقهى يَلِمُّـكَ وحيداً منكسراً كي تتحدَّث. لا تشرب ولا تقامر ولا تغني.. تنتظر نسيمة المقيمة في أحزانك صبح مساء همَّـاً دائماً، وهي تتبدَّى مرتديةً بيلسان الربى، وفي يدها قبضـة من شقائق النعمان جمعتها من أطراف مضارب القرباط، البعيدة بُعْـدَ نسيمة نفسِها عنك.. وها أنت يا عبد الله فراقيع، يا أيها السادر في الغيِّ وفي الانكفاء، ها أنت بين مقهى وحانـة ومقهى، ثم حانة.
تفاصيل كتاب أصـل الغـرام .. نظـرة.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 1
مرات الارسال: 30
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T