أدريـين مـوزيــرا.pdf
وقفت أدريين تنظر إلى المقبرة، ويداها معقودتان خلف ظهرها. كانوا عند آل موزيرا، يطلقون تلك التسمية على مجموعة من اثنتي عشرة صورة معلّقة فوق طاولة جانبية في قاعة الطعام، وقد صُفّ بعضها إلى جانب البعض الآخر، لتغطي جانباً بحاله من الخزانة. كانت سبع من بينها لآل موزيرا، وثلاث لآل سير واثنتان لآل ليكوييه، وهم أعضاء أسرتين نسيبتين لآل موزيرا، وكلّهم ماتوا. وإذا ما استثنينا صورة بالألوان سوف نتناولها بالكلام من بعد، فهي من تلك الصّوَر الفوتوغرافية على نحو ما كانوا يفعلون قبل خمسة وعشرين عاماً، صُوَرٌ فجّة وأمينة، يظهر فيها الوجه على خلفية بيضاء، من غير أن يأتي ظلّ رحيم فيلطّف من عيوبه، وحيث الحقيقة وحدها تنطق بلغتها القاسية. كان يسيراً تمييز آل موزيرا عن آل سير وليكوييه. فجبهتهم ضيّقة وقسماتهم بارزة، ويعلو محياهم شيء من العزيمة، فتعوّد الناس على القول إنّهم أشبه بالزعماء. كانوا، رجالاً ونساءً، يحدّقون ناظرين إلى أمام بالنظرة شبه العدائية التي يتحلّى بها ذوو الضمائر النقيّة. حتى لكأنّ لسان حالهم يقول: -وأنتم، أتدرون ما القلبُ المطمئنّ الذي لا تتسارع دقاته أبداً، قلبٌ لا يعرف الخوف ولا القلق وإنّما يقيس فرحه، ويستقبل ألمه في سكينة، لأنّه لا يندم على شيء؟- فيهم الشيب وفيهم الشباب، فهذه الصبيّة التي يلتفّ رأسها بوشاحقد ماتت قبل الثلاثين، وكانت راهبة في رهبانية نشيطة. إنّ خدّيها مسبلان وذقنها ملتوية بشدة مثل هذا العجوز ذي الوشاح، ولا ريب في أنّ هذه المرأة أمّها، بفمها الضنين وعينيها المتيقّظتين كأنما تُجريان حساباً. وخلافاً لآل موزيرا، الذين كان يستحيل الخلط بينهم وبين عائلة غريبة، فإنّ آل سير وآل ليكوييه ما كان ليختلف بعضهم عن البعض الآخر قط، فيتشابهون فيما بينهم على الرغم من عدم صدورهم عن الأرومة نفسها. فيتراءى للمرء أنّهم قد وُلِدوا فكبُروا ورحلوا، مثلما يقع للنبتات تقريباً، وهم قانعون بالعيش، وقانعون بالموت أيضاً، من غير أن تشفّ عيونهم عن أي شيء كان، باستثناء تلك الروح الذاهلة المتغيّرة والوديعة التي تُشاهدُ بين الحشود في بعض الأحيان . وقد ساد الرأي بـأنّ ثرواتهم وحدها تفسِّر مصاهراتهم آل موزيرا، حتى إنَّ الأشخاص الذين شبّهوا آل موزيرا بالزعماء هم أنفسهم الذين قالوا أيضاً إنّهم قد انقضّوا على آل سير وليكوييه انقضاض الصقور على الحِملان. ومع ذلك فإنّ آل موزيرا وسير وليكوييه، أقوياء كانوا أم ضعفاء، يتوارون جميعاً من أمام العجوز أنطوانيت موزيرا التي كانت تهيمن ملكة ً حتى على الأعضاء الأكثر عنفواناً من بين أسرتها القويّة الشكيمة. وصورتها التي تولت رسمها يدٌ متفانية في عملها، تستأثر بالاهتمام كلّه. قد تكون بلغت الخمسين، لكنّها من هاتيك النساء اللواتي لا يعلّقن على السنّ أهمية تُذكَر، واللواتي يكتسبن القسمات التي سوف تلازمهنّ طول العمر، اكتساباً سريعاً، كأنّ الطبيعة رضيت عن عملها فقررت عدم تعديل أي شيء فيه من بعد. كان الشعر الرمادي المرتد إلى الخلف يكشف عن شكل رأس صغير تتحرّك الأفكار فيه ضمن حيّز ضيّق، فليس للخواطر الأولى أن تُخلي المكان بيسر للواردة من بعد، فتتراءى للذهن على الفور صورة حائط أمام الجبهة العالية التي لا يخددها أي تجعيد. وليس في العينين السوداوين شيء من ذلك التعبير الذي يعكس شيئاً من البلاهة في عيون آل سير ولوكوييه، التي كانت كتلك التي تحدّق في نقطة تقع في مدى بعيد. إنّهما عينا شخص هادىء الروع، مفتوحتان بكامل حدودهما وأبعادهما، وهو ينظر عن قرب فيعاير العائق من غير أن يطرف له جفن. كانت ترتدي صدارة حريرية سوداء تلتفّ حول جذع ممتلىء ومنكبين قويين. راق الفنان أن يصوّر فيه نوعاً من الألق، لكن تلاعب الفنان كان بلا طائل، فلم يخفف بأيّ طريقة مما كان في إهاب ذات المنكبين العريضين من عزم وصمود. لبثت أدريين ساكنة بعض الوقت حيال تلك الصور تتأمّل بعضها إثر بعضهاالآخر، وهي تميل برأسها جانباً. ثم أطلقت تنهيدة. فجاءها صوت امرأة من الحجرة المجاورة سائلاً: - أنت هنا يا أدريين؟ ما بك؟ مسحت أدريين بحركة آلية على رخام الخزانة بقطعة قماش تحملها بيدها، وقالت: -لا شيء. إنّ ألواح زجاج الصور متسخة كثيراً. فلا يسع المرء أن يتبيّن ما تحتها-. فقال الصوت بعد هنيهة: -ينبغي غسلها بشيء من الكحول ومسحها بقطعة قماش جافة-. ثم ساد شيء من الصمت. قالت أدريين كأنّما تُكلّم نفسها: -سوف تظلّ الصوردميمة كحالها أبداً.- جلست على واحد من المقاعد المخمليّة المصطفة ملاصقة للجدار، وشرعت تنظر إلى البقعتين المستطيلتين اللتين صنعتهما أشعة الشمس على البساط أمام النافذتين. أحنت رأسها تحت عبء السأم على نحو ما يفعل آخرون تعباً، لكنّ كتفيها ظلا ثابتين وقامتُها لم تنحن ِ. إنّ من يراها على تلك الحال، بشعرها الملتفّ بقطعة قماش، ومريلة زرقاء فوق تنّورتها، يظنّها للوهلة الأولى خادمة، لكنّها ذات نظرةٍ مسيطرة قمينة بتبديد ذلك الانطباع على الفور، إنّها حقاً بنتٌ من آل موزيرا، ورغم كامل شبابها (لمّا تتجاوز الثامنة عشرة) فإنّ محيّاها قد بدأ ينمّ على ذلك الشغف بالسلطة الذي يُشاهَد تألّقه في قسمات جدّتها أنطوانيت موزيرا. يبقى أنّ بين المرأتين من الشبه الفريد ما لا يتمالك المرء نفسه عن الضحك حياله. كما يبقى أنّ عينيّ الصبية أكثر صفاء، وفمها الممتلئ الشفتين ينمّ على صحة، يبحث المرء عنها عبثاً في وجه الجدة الأبيض. زِد أنّ في خدّي أدريين المستديرين نداوة طفولية تُسبغ هيئة براءة على ذلك المحيّا الذي تحتفظ العزيمة فيه بنصيب كبير على كل حال. وينبغي للمرء أن ينظر إليها ملياً ليتبيّن أنّها حسناء. نهضت فمدّت يدها عبر النافذة ونفضت قطعة القماش. ثم اتّكأت على الحاجز الحديدي فألقت نظرة حتى نهاية الشارع. ليس من يغادر منزله في مثل هذا الجوّ الحار، حتى لا يكاد يعبر من أحدٍ بين ساعة وأخرى، ليساير الظلّ الشحيح عند أسفل الجدران. تأمّلت بعض الوقت أشجارَ الزيزفون الهزيلة التي تقع العين عليها في الحديقة المقابلة، ليتحوّل نظرها على الفور تقريباً إلى دارة لويزا، وهي المنزل الذي يحتلّ زاوية الشارع. كانت النوافذ مغلقة. إنّه بناء من الحجارة المخرّمة تتخللها شبكيات من الآجر، وقد بالغوا في طراز البناء، لا سيّما في شكل البرج الضئيل الذي احتلّ موقع المرقب، وسطحٍ من الآجر بألوان متعددة. يواجهه منزل آخر أبيض اللون تماماً، سطحه من ألواح حجر الأردواز. وحين انحنت الصبية بعض الشيء رأت أنّ نوافذه مغلقة أيضاً. طرق سمعها وقع خطا على الرصيف. فتراجعت أدرين بحركة عفوية ونزعت قطعة القماش التي تغطي شعرها ثم انحنت. فعرفت جارة لهم تمشي مطرقة الرأس، حاملة شبكة بيدها، فارتدّت بقوة إلى الوراء كأنّما خشيت أن يراها أحد، ولبثت ساكنة تستند إلى إطار النافذة، إلى حين أن ابتعدت الخطا. ناداها الصوت ثانية، فأعادت أدريين وضع قطعة القماش على شعرها وعقدت الطرفين وراء قذالها، ثم توجّهت إلى القاعة الكبرى. جالت بنظرها على ما حولها لترى إن كان كلّ شيء بنظام. فأضفت الكنبات والكراسي، وقد صُفـَّت حلقة وسطة القاعة، جواً من المهابة على هذا القسم من المنزل.وتظهر ما بين الستائر ذات النوعية المتوسطة، وهي تغطي بمشهدها القاتم الجدران واللوحات المحمية بعناية خلف ألواح الزجاج، مخرّماتٌ لونُها قرمزي تتناثر فوقها مخرّمات بنفسجية. كانت قطع الأثاث المصنوعة من الخشب المعتم تماثل الخط المتحوّل عن طراز عهد الوصاية مع التزامها بالميل إلى تأمين الراحة، وفقاً لما ساد في عهد الإمبراطورية الثانية. فظهور الكنبات العريضة وقوائمها الثابتة والقطيفة الكثيفة، تمنحك شعوراً بالثقة. وُضِعت أريكة طويلة في أقرب مكان من النافذة، على نحو تستحيل معه رؤية الشخصية المتمددة فوقها، لكنّ تلك الشخصيّة ثنت ساقيها فكنت تلمح كفاً صغيرة ونحيلة وضعتها فوق ركبتيها، إنّها هي التي توجّهت بالكلام قبل قليل إلى أدريين. ما إن سمعت وقع خطا الفتاة حتى بادرتها بالقول: -عليك أن تغيّري الماء للأزهار-. - أجل، فيما بعد. أليست ديزيريه هنا؟ - ذهبت تتسوّق. توجّهت أدريين صوب الموقد تتأمّل الشمعدانات الكبيرة من البرونز، وقالت بعد هنيهة وهي تقطّب حاجبيها: - ألا قولي، هل تعرفين متى يصل دارةَ لويزا المستأجرون الجدد؟ - مستأجرو دارة لويزا الجدد؟ في حزيران أو في مطلع تموز حسب ظني. فهم لم يكتبوا لي بشأن ذلك. وحسناً يفعلون، على كل حال، إذا ما شذّبوا زيزفوناتهم وأعادوا طلاء نوافذهم. وساد صمت قصير ليستأنف الصوت قائلاً: -بيد أنّ الأمر هذا العام لا يتعلّق بالمستأجرين، بل بالمستأجرة، إنّها سيّدة تدعى مدام لوغرا، وهي وحيدة على ما يبدو-. أدارت أدريين رأسها صوب النافذة، فقالت: -أجل، أدري. فقد قال لنا أبي ذلك-. حملتْ إناءً مليئاً بالغرنوقيات وتوجّهت به صوب الباب. فسألها الصوت: - إلى أين أنت ذاهبة؟ - سأغيّر ماء الأزهار. فُتِحَ الباب ثم أُغلِق. وساد الصالة صمت عميق. إنّه الصمت الذي يبدو أنّه يرافق طبيعياً حرارة أيام الصيف، كما النور. وألقى شعاع من الشمس على دفوف الأرضية الخشبية التي مُسِحت بشدة، خطاً معدنياً بين بساطين من النسيج المضلّع القرمزي. حامت ذبابات أمام النافذة دون طنين. وسُمِع صوت ماء يعلو داخل إناء. وعاد الباب ففُتح في غضون دقيقة. قالت أدريين وهي داخلة: - ألا تتذكّرين متى وصلوا في العام الفائت؟ - من؟ تقصدين أيضاً المستأجرين في الجهة المقابلة؟ - ذلك أمر مسلّم به. وجاء الرد بعد هنيهة. - في نهاية أيار. كانت أدريين تحمل الإناء فتسنده إلى مريلتها لتجفّف عنه قطرات الماء. فوضعته في وسط منضدة مستديرة وحيدة القائم واقتربت من الأريكة بعض الشيء. سألت وهي تنظر عبر النافذة: - وكيف حالك اليوم؟ فردّ الصوت بنبرة فيها شيء من الدهشة: - لكنني بخير، يا أدريين. كما العادة. وأطلقت أدريين تنهيدة. اتشح محياها بصبغة من التفكّر والضيق في آن معاً. أسندت كفّيها إلى وركيها وارتدت برأسها إلى الخلف، وعيناها تحدّقان في دارة لويزا. قالت باقتضاب: - لو كنتِ مقابلنا، لنعمتِ بمزيد من الشمس. - لدينا الشمس هنا طول فترة الصباح. - كانت هنالك ستأتيك في الصباح وبعد الظهيرة... سكتت هنيهة ثم أوضحت قائلة كمن عيل صبره: - ما دام البيت موجّهاً نحو الغرب والجنوب. وهكذا فلو كانت مدام لوغرا هنا الآن، لنعمَتْ بالشمس في شارع الرئيس كارنو. تفوّهت بتلك الكلمات بمزيج من الأسى والسخط ، حتى لاقت عناء في ضبط نفسها، وعلى الرغم من عدم تمكّن أحد من رؤيتها، فقد أشارت بحركة من يدها إلى الشارع الذي أتت على ذكره. مرّت بضع ثوانٍ بصمت. فقال الصوت أخيرا: -أجل، هذا صحيح، إنّها لا تُفيد منها... هل تساعديني على النهوض يا أدريين ؟ ليتك تجرّين الكنبة صوبك...- ومن غير أن تجيب، وضعت أدريين يدها على ظهر الكنبة التي أدارتها صوبها بكل يسر، لأنّها كانت قادرة. عندئذ نهضت الشخصية التي كانت ممددة أمام النافذة فمشت بضع خطاً في الصالة وهي تعتمد على قطع الأثاث. إنّها امرأة سنّها غير واضح لأنّ المرض، على ما يبدو، أصابها بالشيخوخة قبل الأوان، وقد يتردد المرء قبل أن يقدّر عمرها بخمسة وثلاثين عاما. لم يكن يبدوعلى جسمها الطويل والمنحني كجسم عجوز، القدرة على التوازن بمفرده، فأخذت تمشي وهي تمدّ يدها اليمنى صوبها مما أوحى بأنّها مكفوفة. فالخوف من السقوط يزيد في بروز التعبير عن الوجل، الذي يظهر ظهوراً طبيعياً على وجهها، أما حاجباها المعقودان على الدوام قلقاً وألماً، فقد انتهيا إلى حفر تجاعيد موازية لهما في الجبهة. ولها أنف كبير يُسبغ على قسماتها جرأة مغلوطة، وخدان شاحبان تخططهما تجاعيد ضئيلة. تراجعت أدريين قليلا لتفسِح لها مجالاً للمرور، لكنّها جلست في كنبة وتنهّدت وهي تدير عينيها فيما حولها، وشفتاها شبه مفتوحتين. ظلّت الفتاة، ويداها على وركيها، تتأمّلها لبعض الوقت دون أن تتكلّم، وتوجّه إليها نظرة ما كانت لترقّ البتة. أخيراً سألتها بنبرة مباغتة: - والآن، هل أنت متعبة ياجيرمين؟ فرفعت المريضة رأسها وقالت: - كلا، فهل ترين وجهي شاحباً؟ واجتاحها فزع مباغت توسّعت بسببه عيناها. فقالت وهي ترى أدريين تلتزم الصمت: - ألا قولي. فنهزت أدريين بكتفيها. ثم أجابت مسرعة: - لم أقل لك إنّ وجهك شاحب. فاستأنفت جيرمين تقول بطلاقة لسان من يرافع دفاعاً عن نفسه: - نمتُ خمس ساعات، وأشعر بأنني على خير ما يرام، وأنا كما في الأمس وفي باقي الأيام. لكنّ أدريين كانت تنظر عبر النافذة من غير أن تصغي إليها. * * *
تفاصيل كتاب أدريـين مـوزيــرا.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 26
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T