الـوجيــز في تاريخ النيوليبرالية.pdf
قد يرى مؤرخو المستقبل في الأعوام 1978- 1980 منعطفاً ثورياً في تاريخ العالم الاجتماعي والاقتصادي. ففي عام 1978 اتخذ دنغ تشياوبنغ Deng Xiaopingالخطوات الحاسمة الأولى نحو تحرير اقتصاد تحكمه الشيوعية في بلد يشكل سكانه خمس عدد سكان العالم. والسبيل الذي حدده دنغ يقضي بتحويل الصين في غضون عقدين من الزمن من موضع خلفي منعزل ومغلق إلى مركز مفتوح للدينامية الرأسمالية بمعدلات نمو ثابتة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية. وعلى الجانب الآخر من المحيط الهادي وفي ظروف مختلفة تماماً تولى شخص غامض نسبياً (بات اليوم واسع الشهرة) اسمه بول فولكر Paul Volckerرئاسة -الاحتياط الفدرالي الأمريكي- (المصرف المركزي) في تموز/يوليو عام 1979. وفي غضون شهور قليلة أحدث تغييراً دراماتيكياً في السياسة النقدية. ومنذ تلك اللحظة أمسك الاحتياط الفدرالي بزمام القيادة في الحرب ضد التضخم دون أن يعير اهتماماً للنتائج المترتبة على ذلك (وبخاصة فيما له صلة بالبطالة). وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي انتخبت مارغريت ثاتشر Margaret Thatcherرئيسة لوزراء بريطانيا في أيار/مايو عام 1979، وبيدها التفويض بأن تحد من سلطة النقابات العمالية وتضع حداً لذلك الركود البائس الناجم عن التضخم والذي غرقت فيه البلاد طوال العقد السابق من السنين. بعدئذ، وفي العام 1980 تحديداً، تم انتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية مسلحاً بما لديه من كياسة وشخصية قيادية ليضع بلاده على مسار يعيد تنشيط اقتصادها من خلال دعم ومؤازرة تحركات فولكر في الاحتياط الفدرالي مضيفاً إليه مزيجه الخاص من السياسات الهادفة إلى الحد من سلطة العمال ورفع القيود عن الصناعة والزراعة واستخراج الموارد الطبيعية وتحرير سلطة المال داخلياً وعلى المسرح العالمي. من هذه المراكز المختلفة انتشرت النبضات الثورية وترددت أصداؤها لتعيد صنع العالم من حولنا ليبدو في صورة مختلفة اختلافاً كلياً عما كان. إن تحولات بهذا الحجم وبهذا العمق لا تحدث بالمصادفة. لذلك يجدر بنا أن نستفسر عن الوسائل والسبل التي من خلالها جرى انتزاع التشكيلات الاقتصادية الجديدة التي غالباً ما تصنّف تحت عنوان -العولمة- من أحشاء الماضي. فقد أخذ كل من فولكر وريغان وثاتشر ودنغ تشياوبنغ حجج الأقليات التي كانت قيد التداول منذ أمد بعيد وجعلوها رأي الأغلبية (ولم يكن ذلك دون كفاح طويل). ريغان أعاد للحياة تقليداً ساد لدى أقلية داخل الحزب الجمهوري منذ عهد باري غولدووتر Barry Goldwaterفي مطلع ستينيات القرن العشرين. ورأى دنغ موجة الثروة والنفوذ المتصاعدة في اليابان وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وعمل على تحريك وإدارة اشتراكية السوق لحماية مصالح الدولة الصينية والارتقاء بها بدلاً من التخطيط المركزي. أما فولكر وثاتشر فقد انتزعا من ظلال الغموض النسبي مبدأ معيناً كان يعرف باسم -النيوليبرالية- (الليبرالية الجديدة أو المحدثة) وجعلاه مبدأ إرشادياً ومحورياً للفكر والإدارة الاقتصاديين. وهذا هو المبدأ عينه من حيث أصوله ونشأته ومضامينه هو الذي يعنيني بالدرجة الأولى. النيوليبرالية هي بدايةً نظرية في ممارسات الاقتصاد السياسي تفترض أن أفضل وسيلة لتعزيز سعادة الإنسان ورخائه تكمن في إطلاق حريات الفرد ومهاراته في القيام بمشاريعه وأعماله ضمن إطار مؤسساتي يتصف بحقوق قوية للملكية الخاصة والأسواق الحرة والتجارة الحرة. أما دور الدولة فيتمثل في خلق الإطار المؤسساتي والحفاظ عليه بما يلائم هكذا ممارسات. فمثلاً يتعين على الدولة أن تضمن جودة ونزاهة النقد. وعلى الدولة أيضاً أن تنشيء الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والشرطية والقانونية اللازمة لتأمين حقوق الملكية الخاصة، وأن تضمن، بالقوة إن لزم الأمر، عمل الأسواق بالشكل الصحيح والملائم. وعلاوة على ذلك، يتعين على الدولة في حال عدم وجود أسواق (في بعض المجالات مثل الأرض والمياه والتعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والتلوث البيئي) أن تخلقها، وبعمل تقوم به الدولة إذا لزم الأمر. وفيما خلا هذه المهام لا يجوز للدولة أن تتدخل. وتدخلات الدولة في الأسواق (بعد خلقها وتأسيسها) يجب أن تظل في الحدود الدنيا المجردة، كما تقول هذه النظرية، فالدولة لا تستطيع أن تمتلك المعلومات الكافية التي تؤهلها للتخمين بخصوص إشارات السوق (الأسعار) وأيضاً لأن جماعاتالمصالح القوية سوف تعمل حتماً على تشويه تدخلات الدولة والتأثير فيها (ولاسيما في الدول الديمقراطية) لما فيه فائدتها الخاصة. لقد حدث في أماكن كثيرة من العالم تحول أكيد ولافت نحو النيوليبرالية في ممارسات وفكر الاقتصاد السياسي منذ سبعينيات القرن العشرين. وشاعت كثيراً إجراءات التحرر من تدخل الدولة والخصخصة وانسحاب الدولة من كثير من مجالات العمل والتقديمات الاجتماعية. ويمكننا القول إن كل الدول تقريباً، ابتداءاً من تلك الدول المستقلة حديثاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى الديمقراطيات الاشتراكية بأسلوبها القديم ودول الرفاه الاجتماعي مثل نيوزيلندا والسويد، قد اعتمدت نسخة أو أخرى من نظرية النيوليبرالية، طوعاً أحياناً، وقسراً في حالات أخرى نتيجة للضغط، وعدلت بعض سياساتها وممارساتها بما يتوافق معها. جنوب أفريقيا بعد تحررها من الفصل العنصري سارعت لتطبيق النيوليبرالية، وحتى الصين المعاصرة، كما سوف نرى لاحقاً، تبدو سائرة على هذا الطريق. ويضاف إلى هذا كله ما يلاحظ حالياً من أن دعاة النيوليبرالية يحتلون الآن مواقع لها تأثير واسع في المجال التعليمي (الجامعات والعديد من مراكز الفكر) وفي الإعلام ومجالس إدارة الشركات والمؤسسات المالية وفي مؤسسات الدولة المفتاحية (وزارة الخزانة والمصارف المركزية) وكذلك في مؤسسات دولية كبرى مثل صندوق النقد الدولي IMFوالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية WTOالتي تنظم أعمال التجارة والمال في أنحاء المعمورة كافة. مجمل القول إن النيوليبرالية باتت اليوم الأسلوب المهيمن في الخطاب. وأضحى لآثارها انتشار واسع في طريقة تفكيرنا حيث اندمجت في طريقة تفسيرنا لما يدور حولنا وفي معيشتنا وفي فهمنا للعالم. غير أن عملية التحول نحو النيوليبرالية (أو كما درج عليه القول -اللبرلة الجديدة-) قد أفرزت الكثير من -التدمير الخلاّق-، ليس فقط في الأطر المؤسساتية والسلطات السابقة لها (حتى أنها شكلت طعناً بالأشكال التقليدية لسيادة الدولة) بل وأيضاً في تقسيم العمل والعلاقات الاجتماعية وفي تقديمات الرفاه وحتى في التكنولوجيا وأسلوب الحياة والتفكير والأنشطة الإنجابية وفي الانتماء للأرض وعادات القلوب. وبمقدار ما تثمن النيوليبرالية تبادلات الأسواق وتعدّها -أخلاقاً بحد ذاتها قادرة على أن تكون بمثابة مرشد ودليل لكل أفعال الإنسان، فتحل بذلك محل المعتقدات الأخلاقية السابقة جميعاً-، فإنها تؤكد على أهمية العلاقات العقدية في السوق كما قال الباحث Treanor. فهي تؤكد أن الخير الاجتماعي يزداد من خلال تزايد امتداد وتواتر التعاملات في الأسواق، وبذلك فهي تسعى لنقل أفعال الإنسان كافة إلى مجال السوق. وهذا الأمر يقتضي تكنولوجيا خلق المعلومات والقدرة على تراكم وخزن ونقل وتحليل واستخدام قواعد المعلومات الهائلة لتكون مرشداً للقرارات في السوق العالمي. ومن هنا تركز اهتمام النيوليبرالية الشديد على إنتاج تكنولوجيا المعلومات (ما قاد البعض للإعلان عن ظهور نوع جديد من -مجتمع المعلومات-). فقد عملت هذه التكنولوجيا على ضغط كثافة تعاملات الأسواق المتصاعدة في المكان والزمان. وأنتجت انفجاراً شديداً لما أدعوه في موضع آخر -الانضغاط المكاني الزماني- وكلما كبر وتوسع المجال الجغرافي (ومن هنا التأكيد على -العولمة-) وكلما قصرت مدة العقود في الأسواق كان ذلك أفضل. وهذا التفضيل الأخير يتوازى مع توصيف ليوتارد Lyotardالشهير لحالة ما بعد الحداثة حيث قال بأنها تلك الحالة التي يحل فيها -العقد المؤقت- محل -المؤسسات الدائمة في المجالات التخصصية والعاطفية والجنسية والثقافية والعائلية والدولية وأيضاً في الشؤون السياسية.- والنتائج الثقافية لهيمنة هكذا أخلاق للسوق كبيرة وكثيرة جداً كما بينت سابقاً في كتابي -حالة ما بعد الحداثة The Condition of Postmodernity(الصادر عام 1989). وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول بأنه على الرغم من كثرة وتوافر الكتابات العامة عن التحولات العالمية وآثارها إلا أن ما هو مفقود عموماً وهذا ما يحاول هذا الكتاب سد ثغرته هو تلك القصة الاقتصادية السياسية حول أصل النيوليبرالية ومن أين جاءت وكيف انتشرت على نطاق واسع وشامل على المسرح العالمي. إضافة لذلك فإن انخراط الكثيرين في نقد هذه النظرية يشير إلى إطار للتعرف على وبناء ترتيبات اقتصادية وسياسية بديلة. يجدر بي في هذه العجالة أن أشير إلى أنني قد أفدت كثيراً في الآونة الأخيرة من أحاديث ومناقشات أجريتها مع كل من جيرارد دومنيل وسام غندين وليو بانيتس. كما أنني مدين بالشكر والعرفان لكل من ماساو ميوشي وجيوفاني أريغي وباتريك بوند وسندي كاتز ونيل سميث وبيرتل أولمان وماريا كايكا وإيريك سوينغدوف. وأود أن أؤكد بأن ما أثار اهتمامي بهذا الموضوع لأول مرة هو مؤتمر حول النيوليبرالية عقد في برلين في تشرين الثاني / نوفمبر عام 2001 برعاية مؤسسة روزا لوكسمبورغ RosaLuxemburg Foundation. وأخص بالشكر بيل كيلي العميد الإداري لمركز الدراسات العليا في جامعة كولومبيا بنيويورك وزملائي وطلبتي بشكل خاص وليس حصرياً في برنامج الأنثروبولوجيا لما قدموه من اهتمام ودعم لي. وبالطبع فإنني أبرىء الجميع من أي مسؤولية قد تنجم عن هذا البحث.
تفاصيل كتاب الـوجيــز في تاريخ النيوليبرالية.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 28
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T