الفتى هاينريش.pdf
تتصدر رواية -الفتى هاينريش- فن غوتفريد كيلر القصصي, على حين تشكل رواية -مارتن سالاندر- خاتمة إبداعه الأدبي. ولهاتين الروايتين بخاصة قاسم مشترك يتجلى في أنهما لم تجدا بسهولة المدخل إلى القراء مثلما وجدته القصائد والمجموعات القصصية. ولم يكتب لهما النجاح ومن ثَمّ لم تدخلا في عداد -نجاحات الكتب-, لأن المؤلف لم يعر اهتماماً لا الذوق السائد في أوساط (جمهور) القراء ولا الاتجاهات الأدبية, بل استسلم لنفسه ببساطة، وأكثر من هذا بصدق مرّ لا يرحم. فلم يهوّن على القارئ بل طالبه بمشاركته التامة وبالنظرة المستقيمة للبيئة الخارجية وبالحس المتفتح بأعمق المسائل, التي تحرك قلب الإنسان, وبالسرور بالتجسيد الفني الصارم, الذي استقى تعبيره الفريد من نوعه شكلاً ومضموناً من نمو مطرد بطيء. فالصدق والابتهاج بالواقع هما السمة المميزة لمؤلفات كيلر. إنه يصف باستمرار، في كبائر الأمور وصغائرها, -الحياة الأساسية- ويرسم, على حد تعبيره هو ذاته, بشراً بالتمام والكمال، ويغوص عبر السطح إلى الأعماق، ويخلِّق ويستوعب في نفسه الشيء الذي رآه، وهذا يظهر في رواية -الفتى هاينريش-. في رواية -مارتن سالاندر- ترد الانطباعات عن الحياة الواقعية, ولا سيما الحياة العامة, قوية إلى حد أن المعالم الأساسية تلوح بوضوح وهي تخترق النسيج الشعري. وعلى كلتا الروايتين ينطبق ما كتب كيلر إلى الناشر فيفيغ إذ قدم له مخطوط -الفتى هاينريش-: إن مشروع هذه الرواية التي لها طابع السيرة الذاتية وتنفيذها ليسا نتيجة لمقصد نظري هادف فحسب, -بل ثمرة لرؤية وخبرة ذاتية خاصة-. وقول كيلر للناشر فيفيغ غني في معناه ومغزاه ويسري مفعوله في واقع الأمر على مجمل أعمال هذا الأديب طوال حياته: -لم أنتج مطلقاً شيئاً إلا تلقى الحافز إلى ذلك من حياتي الباطنية أو الظاهرية وسوف أبقي على ذلك إلى ما شاء الله-. ثم أضاف أنه ولهذا السبب تراه لا يكتب إلا قليلاً. وبالفعل ليس كيلر غزير الكتابة. وهو لا يكتفي بالانطلاق من الخبرة والتجربة, بل يترك الثمرة إلى أن تنضج ببطء وهدوء. ولم يضن على نفسه بالوقت, لا بل أكثر من إعطائها ما يلزمها منه. هذا ما عايشه ناشر رواية -الفتى هاينريش- وما عرفه بصورة متكررة مُصدر مجلة -روندشاو- الألمانية. وفي هذا ثمة صلة قرابة بين روايتي - الفتى هاينريش- و-مارتن سالاندر- بحيث كان يُبدأ في كل مرة بطبع الواحدة منهما قبل أن ينتهي إعداد المخطوطة. وفي كلتا المرتين توقفت أعمال الطباعة إلى أن تمكن الكاتب من جديد من تسليم جزء مما تبقى من الرواية. على أن معوقات كهذه لم تكن ناجمة عن حالات من التردد فقط إذ إن كيلر بصفته أديباً لم يكن أبداً مجتهداً أو مثابراً على عمله بالمفهوم البورجوازي- بل عن صدق مفعم بالشعور بالمسؤولية. فلم يشأ أن يسلم شيئاً إلا بعد إثبات جدارته تجاه نفسه وتجاه مطالبه الفنية. ولهذا السبب طالت فترة طباعة رواية -الفتى هاينريش-. كيلر ذاته هو بطل رواية -هنري فيرت- Henri Vert, كما اعتاد أن يسمي هذا الكتاب من حين لآخر، ولكن الظن بأن ذلك سهّل عليه غزل الخيط هو ظن في غير محله، فهو لم يشأ أن يروي قصة الشباب لأنها كانت قصته هو, بل أراد أن يرويها مع أنه كان عايشها هو ذاته. على أن الإغواء في جعل الذات على حد كبير من الأهمية وفقدان تقدير النظر إلى ما هو مهم أو غير مهم عند المستمع هما أمران من شأنهما أن يهددا كل رواية لها طابع السيرة الذاتية. يطلق كيلر تسمية -مناورة تنطوي على مجازفة- على مسألة أنه جعل من قصة شبابه الذاتية مضموناً للجزء الأول -لكي تشكل أساساً لبقية مجرى الرواية وذلك بالصورة التي كان ممكناً أن تحدث لي أيضاً لو أنني لم ألتفت إلى هذه الناحية-. لقد أدرك كيلر العقبات الخطرة، فكتب عن ذلك إلى صديقه هتنر: -كل شيء مرتبط الآن بما إذا كنت أفلحت كثيراً أو قليلاً في عرض العادي من الأمور والقريب من كل إنسان من دون أن أكون في ذلك عادياً أو مبتذلاً أو مملاً-. ولذلك أقدم على حذف كل ما لا يميز الغرض النهائي للرواية. انطلق كيلر من معايشته الذاتية, من قدره الشخصي, من أوجاعه الذاتية, من أخطائه, من بحثه وتطلعه، ولكن بهدف أن يجعل من شخصه على نحو ما مثالاً يحتذى. الإنساني والمعمول به بوجه عام, بكل ما يحمله ذلك من معنى حقيقي, هما المعياران الحاسمان لمضمون هذه الرواية وصياغتها. وهي تتضمن ملامح من استقامة جَسور وأخرى من جمال أخاذ وثالثة من مأسَوية محزنة. ويمكن للمؤلف أن يقول من دون أي حرج إنه أحرز قصب السبق في مجال قصص الصبيان التي ظهرت في تلك الفترة؛ لم يسبق الآخرين على صعيد الزمن فحسب, بل تفوق عليهم وبقي بعد أن زالوا. وهو بفضل رواية -الفتى هاينريش- لم يثبت جدارة ويسجل انتصاراً فحسب, بل ربما لا يزال حتى يومنا هذا يمارس تأثيراً أكبر مما كان ذلك في زمانه. حين شكت أخت المؤلف من أنها لم تحظ في الرواية بأي ذكر, هدأها بقوله: -إن لي من هذه الرواية غاية محددة تماماً, ولكنها لا تظهر إلا في الجزء الرابع ولم أكن بموجبها بحاجة إلى أخت. وعموماً لا تحتوي الرواية بعد على كل ما عايشته, في حين أنها تحتوي على كثير مما يفتقر إلى الحقيقة, على سبيل المثال قصص الحب-. فالرواية, وهذا هو مغزى الكلام, لم يكن لها أن تكون مجرد نسخة منقولة عن الأحداث المعيشة بل أريدَ لها أن تكون أدباً يغتذي مما هو معيش ويكسب عمقه وشكله من الخبرة الإنسانية والفنية. ولا يتعلق الأمر هنا بفصل الحقيقة عن الأدب، إذ إنه ليس ذلك مخاطرة مملة فحسب بل هي أيضاً خائبة، لأن الأدب كذلك بما أنه ينطلق من معايشة داخلية هو في حد ذاته حقيقة، إلا أن أهم الوقائع في حياة كيلر إلى حين تدوين هذه الرواية تلقى هنا تسجيلاً وتثبيتاً. ولد أبواه في قرية زوريخية هي غلاتفيلدن، غير أن الأب, رودولف كيلر, استقر بصفته خراطاً في مدينة زوريخ. وهناك وفي بيت بالقرب من -الزاوية الذهبية- ولد غوتفريد في التاسع عشر من شهر تموز للعام 1819. ولم يكن عمر الأب سوى 33 عاماً حين اقتلعه الموت من أوساط أشغاله ومشاريعه وطموحاته، وبقيت الزوجة إليزابيت وحيدة مع طفليهما غوتفريد وأخته ريغولا. ويتسم الأب في رواية -الفتى هاينريش- ببريق خاص, وفي رسائل الأديب اليافع ترجع الذكرى أيضاً من حين لآخر إلى الأب, الذي كان قرر أن يتلقى الصبي دروسه الأولى في مدرسة الفقراء المسماة -تسوم بروننتورم- التي كان الأب واحداً من المشرفين عليها. وقد تحققت هذه الرغبة. وفي عام 1831 التحق كيلر بما عرف باسم معهد الصبية الريفيين. لم يسمح له آنذاك بوصفه مقيماً بدخول المدرسة المتوسطة التي كانت وقفاً على أبناء الطبقة البورجوازية، ولكنه أحس بالفروق الطبقية بوضوح حين سمح له بالالتحاق بالمدرسة الصناعية الكانتونية, التي أنشئت حديثاً آنذاك. هناك أسفر حدث مأسَوي عن إنهاء مفاجئ لهذا التأهيل ودل في الوقت ذاته على حيرة العائلة وعجزها من غير أب. فقد شارك غوتفريد في مظاهرة قام بها التلاميذ أمام بيت معلم (كان يفتقر إلى المهارة والبراعة). وفي التحقيق الذي تلا الحادثة كان عليه أن يتحمل وزر كل التلاميذ المتهربين الزائغين عن الدروس. فطرد من المدرسة في التاسع من تموز لعام 1834. وتبيّن الكلمات الختامية من الفصل السادس عشر لرواية -الفتى هاينريش- بوضوح مدى الشعور بالمرارة, الذي يعتري كيلر كلما عاد بذاكرته إلى ذلك التدخل العدواني الوحشي في شؤون حياته. وتخيّم على فترة طفولته وشبابه غيمة سوداء. إلا أن القلق الناجم عن مسألة إحراز تقدم باتجاه المستقبل كان من شأنه أن أثقل كاهل كل من الطفل والأم على حد سواء. وحُسم أمر اختيار المهنة– كما قال كيلر ذاته -بناء على رغبات تفتقر إلى الخبرة والتجربة-: فقد أتى في عام 1834 إلى رسام فني، إن شئت أن تسميه كذلك, لكي يتعلم عنده مهنة الرسم وتبين فيما بعد أنه تلقى دروساً على يد فنان حقيقي إلا أن هذا الفنان غادر زوريخ فجأة لكونه إنساناً مشوشاً عقلياً. كان الفتى آنذاك معتمداً على نفسه كل الاعتماد. وكان إلى جانب الرسم منهمكاً -بمطالعات مستمرة وملء كراسات بكتابات غريبة- إلى أن أقدمت الأم على وضع نهاية لكل حيرة وتردد، فجازفت بإعطاء الابن كل ما سبق لها أن وفرته من مال لكي يذهب إلى مدينة ميونيخ ويتلقى تأهيلاً فنياً مناسباً في أكاديمية فن الرسم. في ربيع عام 1840 أمسك كيلر بعصا الترحال، ولكنه وجد في ميونيخ فناً مناقضاً تماماً لما جبل عليه من ابتغاء حقيقة الطبيعة, لكن دون أن يعي هذا التناقض. فمناظره الريفية الشعرية لم تعد ملائمة للعصر. وتعرض لوضع مثقل بالديون كان من شأنه أن شل كل فعالياته, ولاحقه سوء الحظ مرة تلو أخرى. وانتقل أخيراً بكل متاعه الفني إلى بائع أدوات وأغراض قديمة، وصار يدهن صواري الأعلام والرايات لئلا يموت جوعاً تماماً كما كان يفعل الفتى هاينريش. وبعد ذلك توسل إلى أمه لكي تزوده بالنقود اللازمة لعودته إلى البلاد. فيما بعد قال كيلر إنه عاد إلى الوطن -دون أن يصبح أي شيء-. وبينما كانت الأم تقف دون كلل أو ملل أمام فرن مطبخها لكي تعد الحساء, كان كيلر يجلس وهو يمعن التفكير وراء علب الكرتون المليئة برسوماته, وبما أن حماسه لهذا الفن الهش كان خف إلى حدّ كبير فقد بدأ من جديد يملأ وقته بالمطالعة والكتابة، لكن ذلك لم يؤد إلى إزالة القلق بشأن المستقبل، بل (الأرجح) أن المستقبل ظل يشغل فكره ووجدانه إلى أن تحول الإمعان في التفكير إلى عقد العزم على كتابة رواية حزينة عن الانقطاع المأسَوي لمسيرة فنان شاب, تحطم على صخرتها الأم والابن. -كان هذا حسب علمي- أول مشروع للكتابة بادرت إليه بوعي تام, وكان عمري آنذاك نحو ثلاثة وعشرين عاماً-. ولكن بدءاً من هذه النية الأولى إلى حين الصياغة الأدبية كان ثمة طريق طويل. في عام 1842 لم يُكتب من الرواية أكثر من بضع صفحات. على حين يرجع التصميم التالي, الذي وصل إلينا, إلى عام 1846. وإلى حين انتهاء هذا العمل الأدبي انقضت بعد ذلك عشر سنوات تقريباً، وكان ذلك لمصلحة الرواية. لم يكتسب المؤلف في أثناء ذلك مزيداً من الاطلاعات والرؤى في الحياة فحسب, بل طور أيضاً أسلوبه الخاص به. لكن قبل كل شيء كان المؤلف في عام 1842 لا يزال قريباًَ من تجربته المريرة أثناء إقامته في ميونخ, وذلك إلى حد تعذر معه تضمينه ذلك المحتوى الإنساني العام والضامن لغنى الرواية وديمومتها. آنذاك كان من المتعذر على الكاتب, وهذا ما أحس به هو نفسه, أن يتعدى حدود رواية فنانية Künstlerromanوآفاقها. حين رجع كيلر (إلى التفكير) جدياً إلى سابق النيّة لمشروع الرواية, كان (سبق له) أن نال بعض الشهرة, فضلاً عن مزيد من الثقة بالنفس, من جراء نشر مجموعة من القصائد في ديوان صغير. إلا أن الانعطاف الحاسم في حياته تم إذ إن الدولة, القادرة على كل شيء والمسهمة في السابق في تدمير مسيرته التأهيلية, قدمت له الآن يد المساعدة بإعطائه منحة للدراسة في الخارج. بهذا برهنت الجمهورية عن أريحية زاد من علو تقديرها أن منحتها لم تكن مثقلة بتعليمات أو شروط وأنها كررت كرمها حين وقع كيلر في عوز مدقع. وعلاوة على ذلك يتضح مدى اعتراف حكومة زوريخ وعلى رأسها العمدة إيشر والوزيران زولتسر وبولييه بالتطلعات الرفيعة للرجل الشاب وبموهبته الأكيدة وعقليته المثالية كما يتضح أيضاً محاولات كل هؤلاء لدعم هذه المزايا وتشجيعها. وبذلك يُقطع دابر الزعم المنتشر في البلاد والقائم على انعدام النظر والانتباه بأن كيلر لم يُكتشف كما لم يُقدر حق تقديره إلا خارج البلاد السويسرية. في خريف عام 1848 عقد كيلر العزم وهو مزوّد بمنحة دراسة حكومية على الترحال ثانية, وفي هذه المرة إلى هايدلبيرغ وبرلين. إلى هايدلبيرغ لكي يصب اهتمامه على دراسات أدبية وفلسفية وتاريخية, وإلى برلين لكي يعمق دراساته في الإعداد المسرحي ويغزو هو ذاته خشبة المسرح. ولكن في خريف عام 1855 ضاق ذرعاً بالغربة والاغتراب، فعاد إلى زوريخ من دون المسرحية, ولكن كان -الفتى هاينريش- معه في جعبته. في الأعوام البرلينية انقلبت -الرواية الصغيرة الحزينة- تحت يد المؤلف إلى رواية تطويرية، ولكنه واصل الكتابة فيها واختتمها بما يشبه الإكراه, لأن سقف مطالبه من الأدب كان ارتفع وتغيرت الخطة الأصلية بوعي ازداد توسعاً. خطوة الحياة, وتعني التطور الذاتي المتدرج في تقدمه إلى الأمام, هي الوحيدة التي استطاعت تحديد خطوة الرواية ومن ثم سرعة الإيقاع في إنجازها وإتمامها فإذا ما أراد كيلر أن يبقى وفياً لمبدئه فعليه ألا يكتب أي شيء لم يعايشه شخصياً أو يستوعبه. والناشر بدوره, الذي أزعجه بحق صدور أجزاء الرواية بصورة مشتتة ومتقطعة, حاول مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب تسريع الختام. في عام 1851 صدر الجزء الأول وفي عام 1855 الجزء الأخير. كان للمؤلف من البداية اعتراضات كثيرة على -كتاب القدر- بالصورة التي أنجز فيها تحت ضغط الناشر وكابوس الوعد المعطى. وخطرت في باله جملة من التعديلات وضعته في مواجهة صعوبات جديدة, ولكنها أعطت الرواية شكل السيرة الذاتية الموحد الذي نقرؤها به في أيامنا هذه، فقد تم التخلي عن الخاتمة السابقة وهذه إشارة إلى تغير جوهري واحد فحسب: في الصياغة الأولى للرواية يلتقي هاينريش, العائد تواً إلى الوطن, بجنازة أمه, في حين يرد في الصياغة الثانية أن الأم تلقي على ابنها النظرة الأخيرة وهي على فراش الموت. تعد هذه الرواية من مؤلفات الاعتراف Bekenntniswerkالفنية الكبرى، فأمام القارئ, الذي يريد أن يعرف كم يرجع من أحداث الرواية إلى معايشات شخصية ذاتية وكم يرجع منها إلى الخيال الإبداعي, يجلس كيلر ذاته على كرسي الاعتراف. فهو يقول إنه صاغ قصة هاينريش في مرحلة شبابه -استناداً إلى تجارب وإحساسات ذاتية-. ثم يتابع: -وفي خضم ذلك دخلت في عملية تخيلات وابتكارات ذهنية إلى أن غدا الكتاب أربعة أجزاء وبدا مفتقراً إلى أدنى حد من التناسق. كان سبب ذلك هو ابتهاجي في أن أبتدع من أواخر اليوم غداً حياً لم يسبق لي أن عشته من قبل, وبمعنى أصح, أن أنمي بوسائل شاعرية تلك البذور والبوادر الزهيدة تحقيقاً لهواي ومتعتي. ولكن الطفولة الفعلية, حتى ما فيها من نوادر وأقاصيص طريفة, قدمت في الرواية بصورة تكاد تكون حقيقية تماماً-. بالمقابل تُعرض للقارئ مرحلة الشباب الناضج في معظمها على أنها لعبة لخيال متمم. أما شخصيتا المرأتين فيعبر الكاتب عنهما بقوله: -صورتان متناقضتان من نسج الخيال الشعري, يضع بعضهما بعضاً في حياة الناس المتيقظة موضعاً للشك والتساؤل-. ولكن السؤال عن المعايشة الذاتية ليس هنا أكثر من كونه سؤالاً عن المادة الأولية. لم يجسد الكاتب عالماً من الوقائع المعقولة الواضحة فحسب, بل جسّد أيضاً عالماً من الحياة في العمق، فقد انطلق من العالم المرئي, وإن لم يكتف بما هو مرئي. فبفضل القدرة المصعدة للرؤية وبفضل قوة التعبير المتنامية تراه يرسم بشراً وأشياء بثقة واضحة، ولكن صدقه الذي لا يعرف الليّن يجبره أيضاً على الغوص في أعماق النفس والكشف عن المعوقات النفسية وصولاً إلى الخلجات الأخيرة. من يُرد معرفة كيف تحولت المعايشات إلى كتاب عميق الأفكار وغني بالخبرات والحكمة فما عليه إلا أن يفتح الفصل الرابع من الكتاب الرابع. هنا في -معجزة الناي- يتعرف المرء على وجه الكاتب وقدره وهنا يحصل على الجواب عن سؤاله, الذي هو وحده دون غيره الحاسم من الوجهة الفنية والإنسانية على حد سواء. كيلر تطلع طول حياته إلى أن يكون -نبيل- السجايا، ومن هذه الروح ذات المطلب الخلقي الثابت ومن الروح ذات النزعة الإنسـانية الحقيقية وُلدت روايته التأهيلية. وما دام على -الفتى هاينريش- أن يجد طريقه مروراً بالسعادة والتعاسـة, بالأخطاء والآلام, فإنه قادر على الإجابة عن سؤال كل باحث عن صياغة ماهية الإنسان وعن التطوير المطرد للنفس الإنسانية. كان نمو الأديب وتطوره متوازياً مع نمو عمله وتطوره. وليس بمقدور كل قارئ أن يتتبع -الفتى هاينريش- من أول محاولة، ولكن رب قارئ, في لحظة من التردد والخيبة, رمى الكتاب جانباً وتوقف عن قراءته ثم عاد فيما بعد بدافع من تطوره الذاتي إلى التوغل في عالم فهمه وإدراكه. بهذا المعنى يكاد -الفتى هاينريش- أن يكون مقياساً لثقافتنا وحجر المسافة في تطورنا الذاتي. ومن يعش حياة ثقافية في أعماقه, يجد في هذا الكتاب ماهيته الأكثر ذاتية وبصورة أوضح وأعمق مما يستطيع هو ذاته عرضها وتقديمها للناس. وذات مرة كتب هرمان هتنر إلى كيلر يقول: -أقول لك الحقيقة, قصة الشباب هذه هي قطعة حلي وأنا فخور بأنه يجوز لي أن أسمي بطلها ومؤلفها صديقاً لي-.
تفاصيل كتاب الفتى هاينريش.pdf
التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 23
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T