حقيقة.!

صادق الكتاب فصفحاته الخيرة تنتظر نظرة منكأحنِ جبينك فوق صفحاته في جد، في كل سطر يختفي شهد الحكمة.

الأعمال الأدبية الكاملـة.pdf

المتشرّد يبدو لي في كثير من الأحيان أن هذا ما حدث لأحد الرجال، في أحد البلدان الكبيرة المنثورة على قشرة هذا الكوكب. فذات يوم مطير بارد، لفظ باب أحد الفنادق الحقيرة التي تنتشر في الأحياء البعيدة، رجلاً يرتدي سروالاً أسود قذراً، وسترة رمادية نصل لونها، وانتشرت فيها بقع الزيت، وينتعل حذاء قديماً مرتوقاً. ووقف الرجل أمام باب الفندق، وقد دسّ يديه في جيبيّ سرواله، وراح من ثمّ يتطلّع بعينيه القلقتين ذات اليمين وذات الشمال. ومرّ في تلك اللحظة عجوز، فاستوقفه الغريب، وتحركت شفتاه فسأل: - هل...؟ وترك كلمة هل معلقة في الهواء هنيهة ثم عاد فسأل من جديد: - كم الوقت يا سيدي؟.. رنا إليه العجوز برهة بفضول، وأخرج ساعة ذات سلسلة نحاسية صدئة تميل إلى الاصفرار من جيب صغير في صدريته، وقال: - إنها التاسعة. وأتى بحركة رشيقة من يده الأخرى بمعنى انتظر وأضاف: - بل إنها التاسعة والربع إذا أردت الوقت بالضبط.. إن ساعتي تقصر عادة خمسة عشرة دقيقة عن ساعات الآخرين، ولكني أراهنك أنها التاسعة والربع الآن. وسعل وتمخط بأصابعه التي قامت من قبل بالحركة الرشيقة، ثم مسح ذلك في مؤخرة سرواله. قال الغريب باقتضاب وقد ظهر على وجهه تعبير بالامتعاض والقرف: - شكراً. وترك العجوز مزروعاً في مكانه يثرثر. وما إن ابتعد عنه ثلاث أو أربع خطوات حتى سمعه يقذفه بهذه الكلمات قلة ذوق.. أنا لم أنته من كلامي بعد، حقاً لقد نسي الناس في هذه الأيام جميع الفضائل حتى فضيلة الإصغاء. كان الغريب يسير ببطء مطرقاً، أشبه بطفل استغرقه التفكير في ذنب. وما لبث أن ردّد بينه وبين نفسه: - يا له من عجوز ثرثار... إنّ له وجه ضفدع قذر...ها، إنه يتكلم عن الفضائل. كانت السماء تمطر مطراً خفيفاً ناعماً. وكانت حفر الماء التي خلّفتها أمطار الليلة الفائتة مبعثرة في الطريق، فكان الغريب يتحاشاها بصمت وحذر أخرسين. وكانت يداه المقرورتان لا تزالان في جيبيه، وكان شعره رطباً، وكذلك وجهه، ولحيته النامية. همس الغريب وقد زوى ما بين حاجبيه : أية مدينة ملعونة هذه! لم ينقطع المطر فيها خلال أيام. وأغلب ظني أنني سألقى حتفي جوعاً قبل أن أحصل على عمل شريف.. يا الله! يخيل إليّ أن البرد قد أكل رؤوسي أصابعي. ونظر إلى حذائه. كان الماء قد تسرب إليه. وكان نشيش رتيب ورخص يتصاعد منه كلما لامست قدمه الأرض، ثم تنحدر قطرات متلاحقة من جوانب الحذاء، وتطير فقاعة أو فقاعتان، كأنما انفجر بما ضاق به وكان هذا يحدث باستمرار، مما بدا وكأن الغريب يسير في موكب من موسيقا نشاز متساوقة الإيقاع مع كل خطوة. ولم يمكث طويلاً حتى سحب يديه وأخذ ينفخ فيهما. قال بعد أن بعث في يديه بعض الدفء: لقد طفت الجهة الغربية والشمالية من المدينة، وعليَّ الآن أن أبحث في الجهة الشرقية والجنوبية. وأضاف بعد فترة قصيرة أية أيام عصيبة!!.. يا إلهي إن جميع المدن متشابهة إلى حد مخيف.. توقف المطر عن الهطول، واندفعت موجة من الهواء البارد صفعت وجهه بقسوة، فانكمش على نفسه أكثر من ذي قبل، وتكوم ظهره، وغاصت يداه في أعماق جيبيه. وكانت شفتاه زرقاوين تميلان قليلاً إلى السواد وقمة أنفه حمراء لامعة، وعيناه التعبتان تنتقلان أبداً من مكان إلى آخر متفحصتين. انحدر فجأة ناحية اليمين وخطا في شارع ذي أعمال مختلفة. وكانت هناك في زاوية ما أكوام من جذوع أشجار ضخمة، وأصوات مناشر تقوم بتقطيع الخشب وصقله، تشق الفضاء ثاقبة حادة فتخدش السمع دون رحمة. ولج الغريب باب مصنع الخشب بحذر عظيم، تماماً كما يفعل الهر عند بوابة أحد المطابخ متأنياً متفرساً في كل ما يحيط به. وسار في درب ضيقة بين جبلين من الأشجار المقطوعة. ثم تسلل إلى قاعة فسيحة نظمت فيها المناشر بشكل رائع. ونفذت إلى أنفه رائحة الخشب القوية، وتطايرت النشارة في كل مكان فاستقرت على العمال وكست كل شيء وأصبح أزيز المناشر الحاد أكثر إزعاجاً. أجال الغريب عينيه في هذا العالم الصغير الذي يشبه خلية من النحل الآدمي، فميّز رجلاً قصير القامة ممتلئ الجسم يتنقل بين الآلات باستمرار، ثم ينحني على رجاله ويلقي إليهم بملاحظاته وأوامره. قال في نفسه لا شك أنه المراقب المسؤول، واقترب منه. صاح متهيباً وبصوت راعش: - سيدي! فالتفت إليه الرجل القصير، ورد بلهجة جافة لا أثر فيها للحياة: - نعم؟ وخيل للغريب أن هذه الـ نعم صدرت عن آلة من تلك الآلات القاطعة. وغاصت عيناه بسحابة رمادية، فأسرع يقول وقد بدأ ينتابه نوع من الخور والخوف الذي يلازم الغريب عادة: - هل..؟ هل أجد لديك عملاً يا سيدي؟.. - يا إلهي ماذا حل بالعالم؟.. أليس في هذا البلد سوى مصنعي؟ إنك الواحد والعشرين الذين جاؤوا حتى الآن يسألونني عملاً.. كلا ليس لدي أي عمل. وتدحرج بين الآلات الصاخبة، مستأنفاً أوامره وملاحظاته. لم يجد الغريب عند ذلك بداً من الانسحاب. وخرج من البوابة وأصوات المناشر لا تزال تطن في رأسه. همس مباشرة حين أصبح في الطريق ليتني أملك سيجارة. إن رأسي فارغ كرأس دمية.. ترى متى دخنت آخر سيجارة؟.. فجاءه صوت من داخله يقول: - كان ذلك البارحة عند الظهر بالضبط، حينما أنفقت آخر قطعة نقدية كانت لديك من عمل نصف نهار في معمل للبلاط. ومرّ به رجل استقرت سيجارة في الزاوية اليسرى لشفتيه، يحرفها باستهتار. قال الغريب: ما أسخفه مدخناً! إنه يبدد دخانها عبثاً. ولكن السعادة تبدو على قسمات وجهه، ولا شك أنه يملك مقداراً محترماً من السجاير ونفخ صدره، وتنهد وسار بمحاذاة الحائط ككلب خرج من معركة مثخناً بالجراح.. وقف الغريب أمام حانوت حدادة. كان هناك رجلان أحدهما يمسك قطعة حديد حمراء، بملقط طويل العنق، والثاني يطرق عليها. كان الأول نظيف الوجه نسبياً، إذا قورن برفيقه، بينما كان وجه الآخر أشبه بقطعة فحم تحمل سمات إنسان وعلاوة على ذلك، كانت انعكاسات النار التي يزكي أوارها كير يديره رأس صبي نواس، تكسبهما صفة غير آدمية. قال الرجل ذو الوجه الفحمي، وقد توقف لحظة ليأخذ جرعة ماء: - إيه..؟ ما هي مؤهلاتك أيها الغريب؟ هل تستطيع مثلاً أن تطرق الحديد بقوة؟ فأجاب الغريب وقد لمعت عيناه قليلاً: - نعم.. نعم أستطيع أن أفعل. فقد عملت حمالاً في المرافئ، وبواباً في الفنادق، وطباخاً وخادماً في المطاعم. قد اشتغلت قاطعاً للحجارة في المقالع وحفاراً للقبور. رممت السكك، وشاركت في فتح الطرق، وساهمت في الدفاع عن الوطن. فقال صاحب مصنع الحدادة ساخراً، وقد غمز زميله: - عظيم، وأقسم أنك إنسان نادر المثال. وتصنّع التفكير برهة من الزمن، ثم أضاف بخبث: - عد إليَّ بعد شهر أو شهرين، فقد أجد لك مكاناً شاغراً. فدار الغريب على نفسه وتابع سيره. ومن بعيد شقت الفضاء سلسلة متلاحقة من الرعد المخنوق، وضرب الهواء في أعقاب الغيوم، فزمجرت كقطيع من النيران هائم. رفع الغريب يده إلى وجهه، وهرش لحيته الكثيفة، وعطف رأسه قليلاً على كتفه الأيمن ودمدم بحزن: بعد شهر أو شهرين.. بعد شهر أو شهرين.. أي مستقبل زاهر ينتظرني.. إن معدتي لن تنتظر حتى ذلك الحين. إذن لأجرب من جديد. ومضى يطوي زقاقاً تلو زقاق، وطريقاً بعد طريق، حتى انتهى به المطاف إلى شارع ممتاز فدخل أول مخزن صادفه. قال مباشرة: - أي سيدي! إن لدي خبرة بجميع أنواع الحساب، ومختلف دفاتر التجار والاضبارات وزيادة على ذلك، فأنا أضرب على الآلة الكاتبة بمهارة فائقة. وإذا لم أجد لديك عملاً من هذا الطراز فيمكنك أن تعتمد علي في كنس المخزن، ونفض الغبار عن أوانيك وسلعك وتحفك النادرة, ثم أنتصب بعد ذلك على باب مخزنك كالتمثال أستقبل الزبائن وأطرد عن واجهاتك البلورية الفخمة المتطفلين والأشقياء. فرد صاحب المخزن قائلاً بلهجة آلية دون أن يرفع عينيه عن دفتر ضخم كان أمامه: - آسف لدي الكثير من العمال والموظفين. قال الغريب وقد أخذ سبيله إلى الخارج: - يا للشيطان. لقد سُدّت في وجهي السبل، ولكن لا بأس، ينبغي أن أحاول من جديد. إن ذلك لن يضيرني في شيء. وما إن أقبل المساء، حتى كان قد عرّج على عشرين مطعماً يسأل أصحابها عملاً، وثلاثين فندقاً، وخمسة وأربعين حانوتاً للأحذية، ومئة مكان ذات أعمال مختلفة، لكنه لم ينل أية فائدة. ومع ذلك لم يكن اليأس قد نال منه، غير أنه شعر بصورة مفاجئة بحاجته إلى إنسان ما. وهكذا استوقف الغريب أول مار به، كما يفعل الغريق عندما يتشبث بأي شيء يصادفه. فسأله: - كم الساعة أيها الأخ؟.. وتمنى في سرّه أن يقول له الرجل إن ساعتي تشير إلى كذا وأن يفاجئه بحركة رشيقة مستدركاً: ولكنها تقصّر عادة خمس عشرة دقيقة عن ساعات الآخرين، وأن يسعل ويتمخط ويثرثر ويحكي طويلاً عن أشياء كثيرة. غير أن العابر قطع تأملاته: - إنها الخامسة. وهمَّ أن يستأنف سيره. فسارع الغريب يقول وهو يتكلف النظر إلى الجو: - إن الطقس بارد. ويُخشى حصول أعاصير. أليس كذلك أيها الأخ؟.. أجاب الآخر وهو ينظر إليه بريبة: - نعم إن الجو بارد تماماً، والريح قوية، ولا يستبعد حدوث إعصار هائل. إن ثيابك رقيقة أيها الغريب ويجب أن تدفئ نفسك أكثر. ثم تركه ومضى. - كم الساعة أيها الأخ؟.. - الخامسة وثلاث دقائق. - أواثق أنت من ذلك؟. - كل الثقة. - إن الجو بارد و... - نعم إنه كذلك. ورعدت السماء من جديد، وأظلمت الدنيا: - هل تعرف الوقت يا أخي؟.. - إنها الخامسة والنصف. فقال الغريب وقد بدأ يخنقه فيض من الدموع: - أيها المواطن الطيب. إن الـ . جـ . و. ولكن الرجل مضى مسرعاً. وظل المتشرد وحيداً وأحسّ بأنه جائع وتعب وبائس وبردان، ورأسه فارغ كالطبل، وأنه لا شيء في هذا العالم المجنون. وتلفّت لآخر مرة حوله، ثم انطوى على نفسه وراح يقص عليها قصة حياته. * * *

الأعمال الأدبية الكاملـة.pdf

تفاصيل كتاب الأعمال الأدبية الكاملـة.pdf

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 0
مرات الارسال: 29

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: