حقيقة.!

وراء كل كتاب فكرة ووراء كل فكرة خطوة للامام.

رؤيـة جديـدة.pdf

ثورة الحداثة هل استطاع العرب عبر تاريخهم الحديث، الذي أعقب استقلال بلدانهم، وتخلصها من الانتداب والسيطرة الأجنبية، أن يستوعبوا تطور العصر؟ أم أن معظم الدول العربية ما زالت تلهث جاهدة من أجل اللحاق بركب التطور والحداثة، دون أن تدركه، وذلك بسبب ما يشدها إلى ماضيها، ويعيق سرعة تحركها نحو الهدف؟ إن كل شيء في حياتنا المعاصرة يطرح هذا السؤال بإلحاح متزايد أكثر من أي وقت مضى. إذا كان اختراع الراديو قد أحدث ثورة في زمانه، أعقبتها ثورة اختراع التلفزيون، فما بالنا بثورة الفضائيات من جهة، وثورة الإنترنت من جهة أخرى، وثورة الموبايل من جهة ثالثة؟ لقد جعلت هذه الثورات المتلاحقة المعلومات متوفرة ومتيسرة للجميع بلمح البصر. كما أنهت تلك الثورات سلطة الرقابة، بغض النظر عن كون الأنظمة السياسية ديمقراطية أم شمولية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتصالات المؤثرة في عالم الاقتصاد والمال والبورصة، جعلت العالم الحديث ينقلب انقلاباً مذهلاً. بالتأكيد، فإن لهذا أثره البالغ على التعليم العالي والأبحاث في مجالات العلوم والتكنولوجيا. ولكن، هل تكمن -الحداثة- في استيراد تلك المكتشفات والأدوات والتقنيات، ووضعها قيد الاستخدام فحسب، أم أن الحداثة أمرٌ آخر، له علاقة أساسية باستيعاب العصر، وهضم مناهج التفكير المنطقي فيه؟ باختصار، هل -الاتباع- يحل مشكلة مجاراتنا للعصر، أم أن الهدف الحقيقي هو عملية تؤدي بنا إلى -الإبداع-؟ إن علاقة الإنسان العربي بالعالم، ليس تقنياً وعلمياً وتكنولوجياً ومصرفياً فحسب، بل ثقافياً وروحياً وفكرياً وفنياً، دون أن يتخلى عن خصوصيته وهويته الحضارية، هو ما يجعله حقيقة حاضراً في قلب الأحداث، فاعلاً وليس منفعلاً، مؤثراً إلى جانب كونه متأثراً. لعل التجربة اليابانية، والماليزية، والكورية الجنوبية خير نماذج على ذلك. أعتقد أن بعض الدول العربية النفطية أدركت هذه النقطة، وبدأت تستثمر اقتصادياً خارج حدودها، وصولاً إلى قارات أخرى بعيدة، في الوقت الذي تجلب فيه بعض خيرة الخبرات العربية والأجنبية في مجال الثقافة، لترتفع بمستوى التعليم الجامعي من جهة، ولتحيي مهرجانات ومؤتمرات فكرية عالمية المستوى، تتناول مختلف جوانب الفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ولتطلق مشاريع إبداعية من إنتاج مسرحي وسينمائي وأدبي وفكري، بحيث تصبح تدريجياً مصدر إشعاع حضاري يبني أجيال المستقبل، ليس محلياً فحسب، بل عربياً، مع طموحات إلى العالمية. في يومٍ من أيام التاريخ، كان السؤال عن مدى استيعاب العصر جديراً بأن يطرح على بعض شعوب أوربا وهي تتلقى أصول الحضارة والتقدم العلمي من العرب. ولكن، بالرغم من صحة وصدق تلك الحقيقة التاريخية، فإن التشبث بها اليوم، والتغني بأمجادها العريقة، قد يكون معيقاً لتطورنا، لأنه يملأ النفس بالرضا، إن لم نقل الثقة الزائدة بالنفس، بحيث يتعلق عموم الناس بقشور الماضي، ويعتبرونها أصالةً ضرورية، في حين يصمون آذانهم عن الإصغاء لصوت العصر. أما المثقفون - طليعة المجتمع - فإنهم يحاولون جاهدين بناء جسور يعبرون عليها فوق الهوة بين ما تلقنوه من علوم عن الغرب وبين مجتمعاتهم المحلية الأصيلة. إننا نجد أنفسنا مضطرين الآن أكثر من أي وقت مضى على بذل جهدٍ للانسجام مع العالم المتقدم، والاندماج به في عديد من الأمور، كي لا نصبح خارج العصر. لكن هذه النزعة تظل مصحوبة بالخوف. إنه لخوف مشروع، لأنه نابع من خشية أن يتحول الانسجام والمجاراة إلى انصهار يضيع قيمنا، ويميع هويتنا القومية المتميزة. وهو خوف أطلقت أبواق الإنذار بسببه حتى دولة أوربية عريقة مثل فرنسا حين غزتها رياح الثقافة الشعبية الأمريكية وسلعها الرائجة عالمياً في المأكل والمشرب والملبس. لكننا نعود لنذكّر بأن المجاراة والانسجام لا يعنيان على الإطلاق تقليداً أعمى، بل ربما نستخدم الوسائل المستوردة ونتبّعها كي نصل إلى غايات مبدعة خاصة بنا. وبالتالي، علينا أن نولد من رحم واقعنا بصورة طبيعية، كمخلوق سليم ومعافى ومنفتح على العالم، وليس مخلوقاً مهجناً، مشوه الملامح، لا يعيش إلا في حاضنة التكنولوجيا المستوردة، ولا يتنفس إلا هواءً معلباً. هناك، للأسف الشديد، صور نمطية مغلوطة عنا نحن العرب، يروجها أعداؤنا في العالم. ليس في الإمكان وقف تلك الحملات المغرضة، التي عبرت عن نفسها فكرياً من خلال مفكرين مثل فرانسيس فوكوياما وصموئيل ب. هنتغتون وإن كان الأول قد غيّر من نظراته التي كانت تروج لحرب بين الشمال والجنوب، أو بين الغرب والإسلام، ليعبر عن آراء مناهضة لتهور السياسة العدوانية للمحافظين الجدد من صقور الإدارة الأمريكية بعد غزوهم للعراق. وليس في الإمكان أيضاً وضع حدٍ للصورة الإعلامية المشوهة لصورتنا نحن العرب والمسلمين عبر وسائل الاتصال الجماهيري، وخاصة السينما الغربية، والتي لا تنفك تصمنا بالإرهاب والتخلف. لكنني أعتقد - رغم هذا - أننا مقصرون في حق أنفسنا، إذ أن بإمكاننا أن نستغل جزءاً يسيراً من ثرواتنا لرسم صورة مغايرة للعرب والعروبة في الأمريكيتين وفي الاتحاد الأوربي وفي بقية دول أوربا الشرقية والغربية، وفي الدول الاسكندنافية، بل أيضاً في الشرق الأقصى وشبه القارة الهندية أيضاً، ونعني في الصين وماليزيا وتايلاند وأندونسيا والهند وباكستان وسواها من بلدان، وكذلك في دول القارة السمراء الشاسعة. قد لا يكون لدينا مخترعات عصرية كثيرة نباهي بها، ولكن لدينا بالتأكيد إبداعات إنسانية جديرة بالترجمة والتسويق إلى مختلف اللغات، وإلى مختلف شعوب الأرض. إذا لم نفعل ذلك سريعاً، فإن الأوان سيفوت، وسنخسر جزءاً كبيراً من أبناء تلك البلاد، لأن دعايات إسرائيل تملأ محطات قطارات الأنفاق في عواصم أوربا والعالم، لتظهرها على عكس ما هي عليه، والفكر العنصري تضخه ماكيناتها عبر السينما والتلفزيون باستمرار ضد العرب والمسلمين. وأتساءل لماذا لا يبدأ أثرياء العرب بحملة ترجمة ونشر آثار أدبية عربية حديثة؟ (من الضروري أن يغضوا النظر عن جنسيات أصحابها، لأنهم جميعاً يمثلون الثقافة العربية المعاصرة.) لماذا لا يشتري أصحاب الثروات العرب صحفاً ومحطات تلفزيون وإذاعات أجنبية، يوظفون فيها أجانب مع العرب، بحيث يجيدون مخاطبة القارئ الغريب بمنطقه وأسلوبه، لإعطاء صورة موضوعية عن أمتنا وقضاياها؟ لماذا لا ينتج بعض الأثرياء العرب أفلاماً عربية-عالمية، لا تتجاوز ميزانية الفيلم منها ثمن دبابة أو طائرة، كما كان المرحوم مصطفى العقاد يقول وهو يسعى وراء تمويل فيلمه عن صلاح الدين الأيوبي؟ (قُتل الفنان السوري الكبير بانفجار إرهابي في عمان، بينما يقبع في الأدراج سيناريو كل من هذا الفيلم وفيلم آخر عن آخر ملوك الأندلس، كتبهما المسرحي البريطاني روبرت بولت قبيل وفاته، دون أن تُقدم أية جهة عربية على إحياء المشروعين واستثمارهما.) أخيراً، لماذا لا تنظم الحكومات العربية حملات توعية تخاطب عقل المواطن العالمي أينما كان، وتعطيه صورة صادقة عما يجهله أو يُقدّم له مشوهاً من وجهة نظر معادية؟ للأسف، فإن معظم هذا الجهد الاستثماري شبه غائب، جزئياً أو كلياً، أو ينفذ بشكل إقليمي ضيق الأفق ومحدود التأثير. بالتالي، نترك أنفسنا للصدفة وحدها، فإن فاز نجيب محفوظ بجائزة -نوبل- بجهده الشخصي، فهذا جيد. وإن لمع اسم يوسف شاهين في مهرجان -كان- لموهلته وحدها، فهذا مفرح. وإن رشح اسم أدونيس أو محمود درويش في محافل الشعر العالمي فهذا حسن. إنما نادراً ما يبذل أحد من العرب جهداً منظماً أو مالاً من أجل تلك الغاية. بصراحة، لم يعد بإمكاننا في الألفية الثالثة أن نبقى مثل نعامة تدفن رأسها في الرمال اتقاءً للخطر. ولم يعد بإمكاننا أيضاً أن نقف في وجه العاصفة مثل شجرة يابسة، وإلا فإننا سوف ننكسر. علينا أن نجيد المرونة، فننثني كالنبتة النضرة، ولكن دون أن نتحول إلى عشب طري أو أعواد متكسرة. إذا نجحنا في إثبات ذلك الحضور الثقافي والإبداعي عالمياً، وقمنا بحملات إعلامية للجذب السياحي، فمن المؤكد أننا سنستطيع إقناع الرأي العام العالمي بعدالة قضايانا، ومشروعية مطالبنا، وتمتعنا بالسلام، وعدم عنصريتنا، وانفتاحنا للحوار الحضاري مع الآخر. بالتالي، سوف تنمو شجرتنا الثقافية عن طريق حركة ترجمة واسعة، موضوعية الانتقاء، وسوف تحمل تلك الشجرة الثمار، وتنتشر بذورها، لتصبح مع مرور الوقت غابة وارفة الظلال، يستظل بفيئها جميع أبناء الإنسانية على حد سواء.

رؤيـة جديـدة.pdf

تفاصيل كتاب رؤيـة جديـدة.pdf

التصنيف: المكتبة العامة -> الثقافة العامة
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: Y4$$3R N3T
بتاريخ: 20-10-2018
عدد مرات التحميل: 2
مرات الارسال: 23

عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: Y4$$3R N3T

أكثر الكتب زيارة وتحميلاً: